مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

27‏/08‏/2017

رحلة الدم لإبراهيم عيسى .. تقيحات قلم أسود!

(الصحراويون)، هكذا يلخص “إبراهيم عيسى” – في كلمة واحدة – انطباعه العام عن المسلمين/الغزاة، الذين اقتحموا مصر، وأوسعوها ظلما – فيما يرى – فأعملوا في أهلها القتل والظلم والقمع المنهجي المنظم!

في نحو من سبعمائة صفحة، كتب لنا إبراهيم عيسى روايته الجديدة، بعنوان “رحلة الدم/القتلة الأوائل” (الكرمة للنشر/2016)، حيث تعرض عبر صفحات الكتاب لفترة الفتح الإسلامي لمصر، بدءا من عام 21 من الهجرة فصاعدا.

وحشا (عيسى) كتابه الضخم بكل ألوان التشهير ضد المسلمين – آنذاك – فهم متآمرون، قساة، غلاظ القلوب، لم يقدموا لمصر منجزا واحدا، ولم يلتزموا في حربهم التي شنوها ضد مصر بـ (أخلاقيات المحاربين) – ولو لمرة واحدة – بل أشاعوا الرعب، ونموا التآمر، واحتقروا المصريين!

تواطأ الناشر مع (عيسى) على اعتبار “رحلة الدم” رواية، لينجو الكتاب من أية مساءلة تاريخية أو توثيقية أو أخلاقية! ولم يكن الكتاب – وهو ليس رواية بالمناسبة كما أوقن بوضوح! – أكثر من منشور موتور، ينفجر حقدا ضد الإسلام، تاريخا ورموزا.

خذل (عيسى) الناشر – الذي حاول بحيلة الشكل الروائي أن يفلت من المساءلة – حيث أوضح المؤلف، بما يتجاوز الوضوح، أن: ” .. جميع شخصيات هذه الرواية حقيقية، وكل أحداثها تستند على وقائع وردت في المراجع التاريخية ..”، وهنا أطاح “عيسى” بحيلة الناشر الكسيحة، فنص صراحة أنه يذكر وقائع تاريخية ثابتة، ومضى “عيسى” يحشد في المقدمة عناوين لخمسة عشر مرجعا تاريخيا (يزعم) أنه عاد إليها، في ثنايا الكتاب، مع أن الكتاب في صفحاته الداخلية لم يوثق في الهامش حدثا تاريخيا واحدا بمرجعه (أعني توثيق كل واقعة تاريخية بذكرعنوان المرجع ورقم الصفحة وتاريخ النشر والطبعة في الهامش!) وهنا يتضح لنا أن رص عناوين المراجع التاريخية في المقدمة، لم يكن أكثر من محاولة ساذجة لتخويف الدارسين والقراء (أو تحذيرهم الصارم من محاسبة الكتاب تاريخيا)، وإيهامهم أن كل ما تضمنه الكتاب (حقائق) لا يتطرق إليها شك، مع أن خيال (عيسى)، انطلق بحرية مطلقة لتشكيل مشاهد الكتاب، وتلوينها بوجهة الكاتب ومعتنقاته وتقييماته الخاصة للأحداث التاريخية، حتى وإن تجاوزت هذه التقييمات الواقع التاريخي الفعلي، بل أكاد أقول: حتى وإن لوت ذراع الأحداث، فأظهرت شخوصا في ثياب الملائكة – ولم يكونوا كذلك! – وآخرين في زي الأبالسة الخالصين للشيطنة والتآمر والإيذاء – وهم المسلمون بطبيعة الحال! – ولم يكونوا كذلك بل كان فيهم – ككل المجتمعات – الخيرون والفسدة!

لخص “عيسى” في منشوره/شبه الروائي الموتور، موقف شريحة واسعة من النخبة (المسيطرة) على المشهد الثقافي، التي تحمل بالفعل هذا الانطباع الحاقد عن (الفتح الإسلامي لمصر)، ولم تجرؤ منذ عقود، أن تقوله بهذا الوضوح (أكاد أقول بهذا التوقح المخاصم لأي تقييم تارخي منضبط!)، لكن كتاب عيسى، أعطى قوة دفع كبيرة ووقودا مغذيا لكرنفال الاستباحة القادم لـ “تاريخ الإسلام في مصر”، ليغدو المسلمون في مصر – وفقا لتصوره – في ثوب “الصحراويين” أو “الغرباء” الضيوف، الذين لا يتعين أن يكونوا ضيوفا ثقيلي الظل، أو خارجين عن البروتوكول الخاص بالضيف بإزاء “صاحب الدار” الأصلي، وهذا الانطباع المرسخ هو أخطر ما في طرح الكتاب!

مضت سطور الكتاب كعربة الدفع الرباعي، تنفث سما زعافا، بأخيلة طائفية معبأة بحقد شديد، بدءا من السطر الأول، الذي ينزع عن شخصية (المسلم) أية فدائية أو فروسية مدعاة أو بطولة مزعومة، فالفاتح القادم يظهر في مشهد الاستهلال بهذا الارتعاش: “..ألصق ظهره بالجدار، فشعر كأن السور يهتز من رعشة بدنه ..!”، وهكذا يظهر المقاتل منذ افتتاح ستار البداية خائفا، مرعوبا من ملابسه، يبحث عن الجدران ليختبيء خلفها من المصريين والروم، فهل كانت هذه هي الحقيقة التاريخية؟!!

وفي مشهد آخر – في بداية الكتاب – يصور الكاتب أحد المسلمين الذين يتلون القرآن بهذه الطريقة الفجة: “.. قاعدا بإليتيه على قدميه يتلو قرآنا ..” (ص 11)، فلماذا حشر الكاتب لفظ (الإلية) أو (المؤخرة) في مشهد التلاوة؟! وما الهدف سوى الاستباحة وكسر الهيبة منذ البداية بوضع كلمة “قرآن” إلى جوار كلمة “الإلية” أو المؤخرة” لسحب القاريء إلى توجه ذهني ونفسي معين تجاه حركة الفتح الإسلامي لمصر، أو تجاه مسلك الفاتحين وطبائعهم (الشاذة) أو (المنفرة)؟!

ويمضي الكاتب – بنفس الأخيلة الترامادولية المعربدة – يصف (عمرو بن العاص)، بكل الأوصاف القبيحة، فهو مشغول عن جنوده المقاتلين بصبغ لحيته بـ (الحناء) وتنميق صورته أو تشذيب هندامه وكأنه منفصل عن الواقع الخارجي! (ص 19) أما الجنود المصاحبون له، الذين جاءوا معه من الشام، فتائهون، خائفون، غير مقتنعين بمهمتهم القتالية المفترضة في مصر! وينفجر أحدهم – وهو من اليمن – صائحا في وجه (عمرو): “إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد!” فيرد عليه (عمرو): “اسكت فإنما أنت كلب! ..” فيعاود الرجل الرد: “فأنت – إذن – أمير الكلاب!” (ص 20) وهكذا نكون بإزاء تشكيل عصابي من الغزاة، المتفرغين طول الوقت للتلاوم والبذاءة والردح المتبادل، فلا تعرف أخلاقهم معنى الترفع، ولا خطابهم المتبادل معنى (عفة اللسان)!

 فهل وصل الأمر بأشد أعداء التاريخ الإسلامي – فيمن نعرف من المؤرخين أو المستشرقين – أن يطل على مشهد الفتح الإسلامي لمصر بعشر معشار هذا الغل الأسود؟! وعندما يفكر (عمر بن الخطاب) – رضي الله عنه – في إمداد عمرو بمقاتلين أشداء لتقوية جبهته، تأكل الغيرة القاتلة كبد عمرو، فينفجر صائحا: “إنها حسابات ابن الخطاب العجيبة!” (ص 22) فهل كان هذا هو رد فعل (عمرو) الذي أثبتته مراجعك التاريخية الخمسة عشر أيها المؤرخ/الروائي الهمام؟! وهل هذا هو ما ذكره الطبري وابن سعد والبلاذري وابن الأثير، أم أنك قد عدت – في التوثيق – إلى كتاب (ألف ليلة وليلة)/باب “ما قاله الندمان بعد احتساء الكأس العاشرة”؟!

وانقيادا مع الأخيلة الترامادولية في الكتاب، يمضي (عمر) في وصلة “شخط ونطر” – بتعبير الكاتب – تجاه “معاذ بن جبل”، فيغضب (معاذ) وينفجر قائلا: “لن أطيعك يا عمر في شيء!” (ص 27)، فهل كان هذا هو ما دار في مسرح التاريخ الفعلي، أم ما دار في مسرح (عكاشة)؟! وأية صفحة من كتاب التاريخ الموثوق به ذكرت هذا الهراء؟!

ويمضي الكاتب – في صفحات مطولة – ليسرد جذور العلاقة الوثيقة بين (معاذ) و(عبدالرحمن بن ملجم) قاتل (علي) – رضي الله عنه – ليؤكد بالمؤشرات المستترة والمعلنة، أن إجرام (ابن ملجم)، خرج من رحم (معاذ)، وأن معاذا وابن ملجم، وجهان لعملة واحدة، خرجت من ماكينة الجريمة والعنف والاستباحة!

ويظهر عمرو في المشاهد اللاحقة، شديد السذاجة، بطيء الفهم – وهو ما لم يقل به أبدا أشد أعداء عمرو في القديم والحديث حقدا وبغضا! – فحين يؤكد عمر لعمرو أن المقاتل الواحد أو الرجل الواحد من مقاتلي كتيبة الإمداد بـ (ألف رجل)، يستدير عمرو ليسأل (مسلمة بن مخلد) أحد مقاتلي جيش الإمداد: “.. أين التسعمائة والتسعة والتسعون رجلا الآخرون فيك؟! ..” فيضحك (مسلمة) ملء شدقيه، من سذاجة (عمرو) الذي تصور أن هنالك جنودا ألفا مخبئين بالفعل تحت ملابسه، أو في كمه؟! فهل كان هذا مشهدا تاريخيا، أم فيلما كارتونيا من إنتاج “والت ديزني”؟!

وفي مقابل هذه الروح الحقود في تجسيد مسلك الصحابة أو ممارساتهم عموما، يذوب (إبراهيم عيسى)، في رقة قلوب العذارى، عندما يفرد صفحات مطولة عن (الأب بنيامين)، أثناء فراره في الصحراء من بطش الروم، فيرسخ قلم عيسى، بكل ما وسعه من جهد بلاغي، إطارا رفيعا من الوقار والصفح والاستنارة والهيبة (وهي بعينها الطريقة التي تعامل بها مع المشاهد الخاصة ب “أبي مريم” الراهب المريد)، وقد كان الأب (بنيامين) – من خلال مراجعتي لأدق المراجع التاريخية – متمتعا حقا بهذه الصفات، التي جعلت المسلمين – لا غيرهم – يعيدونه إلى داره وديره معززا مكرما مكللاً بآيات التبجيل، ولكن يبقى السؤال لماذا نسبنا كل الخير والهيبة لطرف، وحجبناهما عن طرف آخر، فبدا أحد الطرفين ملاكا سابحا في الملأ الأعلى، وبدا الآخر شيطانا مريدا يتقاذفه القاع ؟!

ولن أحدثك عن الحسرة التي ملأت قلب (عيسى)، وهو يتحدث عما أسماه: “.. تعاون بعض القبط مع العرب” (ص 53) وكأنه غاضب من هذا التعاون ويوشك أن يقول من بين أسنانه الجازة بغضب: “ليتهم لم يتعاونوا مع هؤلاء الغزاة!” وقد بدا الروح العدواني ذاته حال الحديث عن نجاح عملية الفتح واستتباب الأمر للمسلمين، حيث نسب (عيسى) حالة النجاح إلى ما أسماه “غباء وضعف المقوقس”!! (ص 54) وأصدقكم القول إنني راجعت قسما كبيرا من كتب المؤرخين التي أرخت للفتح الإسلامي لمصر، فلم أجد أبدا حقدا أسود يطفح بهذه القتامة، ولم أجد غلا عنصريا ينفجر بهذا الهوس! حتى أشد الكتابات انحيازا ضد المسلمين – ككتابات “حنا النقيوسي” مثلا – لم تكن بهذه العدوانية الملتاثة، بل ذكرتنا بتكريم المسلمين للأب بنيامين وإنهاء البطش الروماني السادي الذي شهدته مصر على يد (دقلديانوس) ومن تلوه في الحكم!

ولي سؤالان جذريان: أحدهما لـ (عيسى): ما إحساسك الغالب الآن بعد أن خذلك الذين غازلتهم بهذا الكتاب، فلم يقفوا إلى جوارك بعد ترحيلك عن قناتك الفضائية المفضلة وإنهاء وجودك الإعلامي على الشاشات؟!

ويبقى السؤال الآخر لمن أوقدوا لعيسى ورفاقه ضوءا أخضر بهذه الاستباحة غير المسبوقة: هل هذا النوع من الكتابات الطائفية الصريحة يمكن أن يبني وطنا، أو يحجب عن الأعين ما يلابس المشهد المصري من إخفاق مؤلم في كل المستويات والأصعدة؟!

نُشر في (صوت الجماهير)
بتاريخ 18-03-2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق