مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

03‏/06‏/2018



دراما رمضان .. خلطة الجهل و التحريض!

منشور فى 01 يونيو 2018 بجريدة المصريون



لم يتمكن أي جيل فني من الإساءة إلى فن " الدراما التليفزيونية " في مصر ، كما تمكن الجيل الراهن من خلال العروض ( الكارثية ) الموغلة في الانحطاط و التحريض ، أعني  العروض  الدميمة المتمرغة في القبح ، التي نراها في دراما هذا الموسم ، و لم يتمكن مجموعة من الفنانين و المخرجين و الفنيين ، من محو لحظات التألق و العز ل " أدب التمثيلية التليفزيونية "  الذي كانت بلادنا تباهي به يوما ً ، كما تمكن هذا الجيل الفني الضحل  " المسيس " حتى العظام ، و المدفوع لمباشرة هذا ( العك )  مقطوع الصلة بالفن أو حتى المنطق ، بأوامر مباشرة بطريقة مفضوحة تماما ً ،  أثرت على الأطقم الفنية المشاركة في المسلسلات  ، و دفعت بها _ تحت ضغط الأوامر _  إلى ( العجلة و الاستسهال ) لتمرير " الرسالة المطلوبة " بأي ثمن ، و كأنها تخاطب بلهاء ألغوا عقولهم ، ووضح لكل ذي عينين ، ان الدراما هذه المرة ، جاءت جزءا ً عضويا ً من ( الإعلام التعبوي ) ، الذي يكرس ذات الرسالة الإعلامية العامة بصب أطنان من التحريض و الاستباحة و إيغار الصدور ، دون تحسب للنتائج الخطيرة لهذه الرسائل الفنية _ أو بالأدق " غير الفنية " _  الملغومة  !
 لا يعرف الذين دخلوا الأستوديوهات هذا العام ، لتصدير هذه اللوحات الشائهة ، و الغذاء الفكري و الفني المسموم ، أن مصر تحمل على كتفها كالشارة الراقية ،  رصيدا ً من أدب الدراما التليفزيونية ، هو الأعرق في المنطقة العربية _ بل و العالم الثالث _ حيث يمتد هذا الرصيد إلى عام 1960 ، حين ظهر الشريط رقم ( 1 ) لأول تمثيلية تليفزيونية في مصر و العالم العربي ، بعنوان : " جهاز المعلم شحاته " ، و كانت من اللون الاجتماعي المحبب للجميع ، و منذ هذا التاريخ ، توالت المسلسلات و السباعيات و السهرات التليفزيونية ، فضلا ً عن المسرحيات التليفزيونية ، بعد أن تأسس في حاضنة التليفزيون ست فرق مسرحية ، و شكلت هذه الوجبة الدرامية الرفيعة ، مائدة اجتماعية شعبية للمصريين ، يتحلق حولها الجميع في المواسم و غير المواسم ، كما شكلت هذه الوجبة الفنية نفسها ، الجزء الأكبر من ( القوة الناعمة ) المصرية ، التي صاغت الوجدان العربي ، و تماهت مع أشواقه و طموحاته ، و كانت _ بحق _ نافذة للثقافة الرفيعة ، و القضية الهادفة ، و ترجمانا ً حقا ً للوجع المصري و العربي ، الذي لم يكف عن التغني بأنشودة الحريات و العدالة الاجتماعية . و في قاطرة الأمجاد الرفيعة للدراما التليفزيونية ، مر الرائعون : " عبد المنعم الصاوي " و " محفوظ عبد الرحمن " و " صفاء عامر " و " محمد جلال عبد القوي " ، حيث وصلت رحلة القاطرة ذروة تألقها مع أمير الدراما التليفزيونية الراحل " أسامة أنور عكاشة "  ( 1941 _ 2010 ) ، الذي تحولت الدراما التليفزيونية _ على يديه _ إلى نص مرئي مهني ، مفعم بالبهاء و الجمال ، مكلل بعشرات الرسائل الحضارية و الوطنية الرفيعة ، منذ دفع إلى الشاشة بعمله الأول " سباعية الإنسان و الحقيقة " ، مرورا ً ب " الشهد و الدموع " و " رحلة أبو العلا البشري " و " عصفو النار " و " المشربية " و " زيزينيا " ، ووصولا ً إلى " ليالي الحلمية " ، بأجزائها الخمسة ، و قد تحولت في الوجدان المصري إلى ملحمة متكاملة ، ترصد التاريخ و التحولات الاجتماعية و السياسية و الفكرية ، برهافة و قوة و حس وطني / عربي ، فبدت الشوارع المصرية و العربية ، خالية تماما ً من المارة في أوقات عرض دراما عكاشة ، و هو استفتاء حقيقي على الروعة و القيمة و التماهي الكامل مع الوجدان الشعبي المسكون بالطموحات و الأوجاع , و لا عجب أن يقول " عكاشة " عن الدراما التليفزيونية ، و هو الذي هجر حياة الوظيفة تماما ً و تفرغ للدراما منذ عام 1982 : هي ( أي الدراما ) " .. بحر التجربة الإنسانية الذي لا تحده شواطيء .. ! " و لا جدال أن رصيد عكاشة ، الأجمل و الأضخم ، هو الذي دفع بأمير الرواية العربية " نجيب محفوظ " أن يصف دراما عكاشة ب " العمق و الشمول " . و لا أدري موقف " محفوظ " ، لو امتد به العمر ، و رأى هذه الفواصل الراهنة  المنتسبة زورا ً إلى " فن الدراما " ، و المخلوطة بكل أشكال  الاستهتار والقبح و العفن الفني و الأخلاقي ؟!
 عرض حتى الآن أربعة و عشرون عملا ً دراميا ً _ هكذا يفترض ! _ بعد أن خرج بشكل مفاجيء من السباق قبل رمضان بساعات  خمسة أعمال درامية ، لا ندري أسباب استبعادها ، و هل كانت هذه الأسباب رقابية أم سياسية أم فنية لضعف النصوص ؟! لكن المعروض حتى الآن ، و بعد الحلقات الأولى ينذر بكارثة فنية و أخلاقية ، متكاملة الأبعاد ، و كان البطل الحقيقي في معظم الأعمال ، ما يسمى ب " أخطاء الراكور " حيث بدا الفنيون و المخرجون ، و كأنهم يعانون من غيبوبة ، و مثالا ً للغيبوبة و الحماقة الفنية ، رأينا في مسلسل " بالحجم العائلي "  الممثل " يحيى الفخراني " و هو ينتظر أحفاده في الفندق ( دون لحية ) و عندما خرج ليصافحهم بعد دقائق الانتظار ، عانقهم و قد بدت  على وجهه " لحية بيضاء " كبيرة   ! ( متى نبتت ؟! ) و في مسلسل : " أبو عمر المصري " سبق الصوت الصورة في خطأ تقني فاضح في مشهد اليخوت البحرية ! و يترسخ انطباع الجهل التاريخي ، حين يعرض المسلسل أحداثا ً ( تسعينية ) ، و يجري الحديث في هذه الأجواء التسعينية عن " حادث مركز التجارة العالمي " ( الذي وقع عام 2001 ) ! و في مسلسل " رحيم " ظهر الممثل " ياسر جلال " ، عقب خروجه من السجن ، و كان واضحا ً _ حتى للكفيف ! _ أنه تم تركيب لحية إضافية تدلت من لحيته النابتة ، بشكل لا يخطيء فيه تلميذ صغير ، و لا أقول " فني محترف " ! و في مسلسل " كلبش 2 " ظهر الممثل " أمير كرارة " و هو يمسك السلاح بطريقة مضحكة و مقلوبة  و خاطئة تماما ً ، و يفترض أنه من " العمليات الخاصة " ! كما ظهرت زوجة " سليم الأنصاري " في العمل نفسه ، و هي حامل ، و قد امتدت بطنها إلى الأمام  عشرة أمتار _ بماكياج مضحك حد البكاء _ حتى علق أحد الظرفاء  قائلا ً : " .. ربما كانت حاملا ً في ديناصور ! .." و صور المسلسل الفيوم العظيمة ، و كأنها " مجموعة قبائل " ! ! و في مسلسل " عوالم خفية " بطولة الفنان " عادل إمام " ، ظهرت أمام الكاميرا _ بتقريب الصورة جدا ً _ نسخة من صحيفة " الأهرام " و قد كتب عليها : " تأسست عام 2010 .." ! ! " الأهرام تأسست عام 2010 أيها المفكرون النابهون ؟! أما " المسخرة " الحقيقية ، المهينة لكل تاريخ مصر الفني ، فهي مسلسل : " نسر الصعيد " ، ففي مشهد  هش يظهر الممثل " محمد رمضان " بثلاث حسنات على وجهه ، و في مشهد آخر تظهر نفس الشخصية  له ب " حسنة واحدة " و كأن المشاهد فاقد الذاكرة ، أو يمتلك ذاكرة سمك ! أما مسخرة المساخر ، فكانت مشهد قفزه في الماء من أعلى الكوبري ، حيث بدا الطريق خاليا ً من البشر _ و قد كان منذ ثوان يكتظ بالبشر ! _ و فتح المخرج " كادر اللقطة " _ طبعا ً دون قصد ! _ فظهر صناع المسلسل ، و هم يمنعون المارة من المرور على الكوبري ، ليتمكن الممثلون من إكمال اللقطة ! ! إنها السوأة الفنية التي افتضحت في كل شيء ، فأظهرت لنا واقع " مسوخ " لا صلة له بآباء الدراما التليفزيونية العظماء في مصر !
 و يمكن _ بخلع الأضراس _ أن نتقبل هذه الأخطاء الفنية و المهنية غير المسبوقة في تاريخ الأستوديوهات المصرية على الإطلاق ، كما يمكن أن نتقبل ، على مضض بعصر الليمون على أنفسنا ، الأفكار المستهلكة الساذجة ، و المادة الخام الضحلة و الجهل الفاضح بوقائع و أحداث تاريخية يعرفها أصغر طفل في مدرسة ، لكن هل من الممكن _ بالسهولة نفسها _ أن نتقبل واقع " الرسائل التحريضية و اللاأخلاقية المسفة غاية الإسفاف " ؟! هل يمكن تقبل " الحوار الجنسي " ، بالإيحاءات المكشوفة ، بين " وفاء عامر " و " محمد رمضان "  المتجرد من ملابسه في " نسر الصعيد "  بهذه الوقاحة في شهر يكلله " القرآن " و " الصيام " ؟! و قد اضطرت الرقابة لحذف الكلمة المعبرة عن " العضو الذكري " في المشهد ، فتطوع الأسطورة " محمد رمضان " بنشر المشهد كاملا ً على صفحته ، بعد استعادة الكلمة المحذوفة رقابيا ً ؟! و هل يمكن أن نتقبل المشهد التحريضي ، المفعم بالغل و الحقد الأسود ، في مسلسل : " فوق السحاب " ، حين ظهر الشيخ الملتحي ، و هو يجلد الفتاة الرقيقة على ظهرها ، و يعد معنا إحصائيا ً _ بصوته الأجش _ " جلدة جلدة " ليستوفي عدد الجلدات إلى ثمانين  ، بما يجعل المشاهد يفكر جديا ً في التملص من الإسلام نفسه ، لينجو من هذا السحل العلني ؟! و هل يمكن تقبل حوار الضابط مع المتهم في مسلسل : " عوالم خفية " ، و هو يصف الشيوخ المسلمين _ عن بكرة أبيهم ! _ بأنهم " يوزعون قراريط الجنة كما يريدون ..! " ثم يستدير لتهديد المتهمين بالحبس الانفرادي مع " أسد جائع " و كأننا نعيش في غابة بلا قانون  ؟! و هل يمكن أن نتقبل مشهد " محمد رمضان " _ بالزي الرسمي الممثل للسلطة  _ و هو يضع مواطنا ً تحت قدمه لمدة دقائق ، و يخاطب المحاور أمامه و كأنه يطأ صرصورا ً بلا حقوق ، ثم ينحني على المواطن المختنق تحت حذائه ، ليدس يده في جيبه و يخرج حافظة نقوده ، و ينتزع منها ثلاثمائة جنيه ، في أخس أشكال الاستباحة و إدارة الظهر لأية إنسانية أو حقوق ؟! و هل يمكن قبول مشهد " أحمد بدير " في " سلسال الدم " ، و هو يصف الانتخابات النيابية ، التي تلت ثورة 25 يناير ، بأنها انتخابات صنعها " الزيت و السكر و الأموال " ، بينما أطبقت كلمة المراقبين  _ في الداخل و الخارج _ على نزاهتها الديمقراطية ، بقطع النظر عن أية أخطاء حدثت بعد ذلك ؟! و قبل هذا كله : هل يمكن _ بسهولة _ أن نتقبل أخطر الوقائع في دراما هذا العام ، حين عرض التليفزيون مسلسل : " أبو عمر المصري " للقاص المعروف و الدبلوماسي  د " عز الدين شكري فشير " ، و هو مسلسل مأخوذ من روايتيه : " مقتل فخر الدين " و " أبو عمر المصري " ، حيث فوجيء المشاهدون ، بإزالة اسم المؤلف د " عز الدين شكري " من تتر المقدمة و الختام ، و كأن العمل " لقيط " بلا مؤلف ، أو حكر خاص ب " السيناريست " ؟! لا لشيء إلا لأن المؤلف محسوب على ثورة 25 يناير ، أو له رؤية سياسية مختلفة ؟! و إذا كان المؤلف من وجهة نظر من ارتكب هذه الجريمة الفكرية ، سيئا ً أو مغرضا ً _  فيما يرى من حذف اسمه بدم بارد  من غلاف عمل يملكه بحق الملكية الفكرية _ فلماذا اخترنا عمله الأدبي دون غيره ليكون مسلسلا ً ، و ما الذي يجبرنا على التعامل مع نصه مادمنا لا نريده منذ البداية ، أو نتشكك في نياته السياسية و الثورية  ؟!  نحن بإزاء واقعة استباحة لا يمكن تمريرها أخلاقيا ً ، بحيث نحرم مبدعا ً من نسبة عمله الأدبي إليه و كأنه غير موجود بين أظهرنا ؟! و لو تم تصعيد هذه الواقعة ، لشهدت بلادنا  _ بكل أسف _ حملة تأنيب مهينة  في أروقة " اليونسكو " ؟! و مما زاد الطين بلة أن هذا المسلسل ، تسبب في إغضاب أشقائنا السودانيين ، حين أظهرهم و كأن بلادهم هي حاضنة المعسكرات المسلحة الخاصة بالمتطرفين ، حيث ظهرت العربات ب " اللوحات السودانية " في رسالة استفزاز تسببت في حملة إعلامية غاضبة في الخرطوم ؟! إنها خلطة الضحالة و التحريض الأسود التي أساءت إلى المواطنة و القيمة و الولاءات العربية و الإسلامية ، و سحبت من رصيدنا كثيرا ً ، حتى أوشك رصيد " القوة الناعمة " على النفاد لآخر قطرة ؟! أما آن صوت الحكمة بعد لنعيد ترتيب الأوراق ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق