مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

04‏/07‏/2018



لغز المواطن (الزومبى)..!



فى أدبيات الخطاب السينمائى الحديث، ابتكر المؤلفون ومبدعو "السيناريو"، شخصية "الزومبى" Zombie، العائد بعد موته، أو "الجثة المتحركة"، بتبلد وانعدام واضح لمظاهر الحياة فى الجوارح والأطراف وتعبيرات الوجه، ويتلاحظ لنا فى حركات الإنسان/ الزومبى، الآلية والميكنة وتحجر العين وكأنها قطعة زجاج، وتبدد أى انفعال أو تأثر أو أحاسيس منطبعة على الوجه، ويشيع نموذج الزومبى فى الآداب الأوروبية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وينتشر بصفة خاصة فى أدب أمريكا الشمالية والفلكلور الأوروبى بوجه عام.
وقد استثمرت السينما العالمية ظاهرة "الجثث المتبلدة المتحركة" فى عدد وافر من الأفلام الذائعة، أشهرها فيلم "ليلة الحى الميت" للمخرج الشهير "جورج روميرو" عام 1968، ودون أية ديباجة أو مقدمة أقول، إن السمات التى خلعتها كاميرا المخرج النابه "روميرو" على شخصيات الزومبى المقبضة الناضحة بالكآبة والتبلد وغياب أية سمة انفعالية، تكاد أن تنطبق على وجوه المصريين فى الشوارع والأسواق ومحال "السوبر ماركت" هذه الأيام، لا انفعال على الوجه، ولا تأوه أو إبراز لأى ضيق ظاهر، أو تفريغ مؤقت لشحنة الألم والكمد، لا صوت يبدو محسوسًا، لا تحرك لأية عضلة بالوجه، لا وضوح لأى انفعال فى حركة العين فى مآقيها بل استتار غامض خلف نظرة زجاجية خالية من أى دلالة محددة، أو تصور واضح لحلول أو مستقبل.ثمة ملايين متدفقة فى الشوارع، من الكائنات الزومبى، التى لم تعد تتألم _ وفق المفاهيم النمطية _ بسبب توالى الصدمات، والضربات الاجتماعية الصاعقة، والارتفاعات المتهوسة المباغتة (حتى فى الأعياد والمواسم!) فى الأسعار بطريقة تتحدى أى منطق، وقد طالت منحنيات الغلاء كل شيء، خصوصًا الوقود والغذاء والخدمات، بدرجة شلت جهود الخبراء الاقتصاديين عن أى تحليلات مستقبلية واضحة، يمكن أن يشتم منها رائحة أمل! وبقى سؤال المعاهد والخبراء (للمرة المائة)، وهو السؤال القديم/ الجديد منذ فترة: "علامَ تراهن بالضبط هذه السلطة؟ وما الذى ينتظره وزراؤها المشغولون بعزف أغنية "الصب" فى مصلحة المواطن بالأرغول والطبول؟ وما نهاية هذا الطريق، ولو بالخيال السياسى والاقتصادى المحدود؟ وحتى متى سيتحمل "ملح الأرض" من البسطاء والطبقات المتوسطة والدنيا، بحيث تستقبل ظهورهم المنحنية مزيدًا من الأحمال؟ وهل يمكن أن يكون تكسير عظام الظهر بهذه الطريقة العمياء شكلًا من أشكال الإصلاح الاقتصادى الواعد أو المبشر أو المحتمل؟ وما دلالة هذه الحالة "الزومبية/ المتحجرة" التى تكسو الوجوه بدرجة مقلقة أو منذرة بمخاطر أو باعثة على التساؤل المتحير؟. الطبيعى عندما أسدد لك لكمة مؤلمة أن تفرج عن آهة ألم، والمنطقى حين أهوى بعصا أو هراوة على جسدك أن تحرر الألم فى شكل صرخة، والمتماشى مع المنطق حين يحزك نصل موسى أو سكين حاد، أن يسمع الناس لك ألمًا فى صورة صوت أو تعبيرات بالوجه من أى نوع، ولكن بالتفحص الدقيق، الذى أباشره منذ فترة فى "وجوه المصريين"، ألاحظ أن الحالة النمطية/ الطبيعية لـ"تحمل الألم" أو رمزيته أو ردة فعله، تغيب ويظهر _ بدلًا منها _ ملامح "حالة الزومبى" لا نظرة واضحة، لا رد فعل ملموسًا يمكن فهمه، لا إفراج عن أية أصوات بارزة للألم، لا تفريغ من أى نوع لشحنة توجع! ملايين زاحفة بطريقة متشابهة تجرجر أقدامها فى الشوارع، وتحصى ما بقى فى حافظة النقود، بذات النظرة "الزجاجية" التى لا تحمل أى تعبير واضح من أى نوع!. ضيقو الأفق وقصيرو النظر يمكن أن يقولوا: "هذه حالة هدوء مطمئن فى ردة الفعل.." ولكن أصحاب الرؤى الاقتصادية والنفسية العميقة فى فهم السلوك الإنسانى، أو المتسمة بقليل من العمق: "يقولون إن عدم التألم لضربة شديدة الإيجاع، وفق استجابات "الزومبى" مسلك يخرج عن الحالة الإنسانية الطبيعية! وقد يدل على التكتل التدريجى، لرد فعل مباغت أو بركانى أو انفجارى! وآمل من العقلاء فى مناطق صناعة القرار الاقتصادى بالخصوص أن يقرأوا _ بتمهل وعمق _ هذه السمة "الزومبية" غير المفهومة بوضوح فى ردة الفعل للمصريين بعد الزيادات الأخيرة فى الأسعار. فقد توقع المصريون _ مثالًا لا حصرًا _ أن تطرأ زيادات على الوقود أو بعض السلع بنسب تبقى فى الحدود "المحتملة" أو "المأمونة" (ثلاثة بالمائة مثلًا) ففوجئوا _ بعد زيادات الوقود _ بأسعار الحديد تراوح زياداتها بين عشرة بالمائة واثنتى عشرة بالمائة، وفوجئوا بأسعار "الطوب الطفلى" تقفز إلى أعلى لتلامس نسبة خمسة وأربعين بالمائة، وثمة توقعات بزيادة للأدوية تتراوح بين خمسة وثلاثين بالمائة، وخمسين بالمائة! فضلًا عن صعود أسعار الدواجن إلى قيمة تلامس نسبة عشرة بالمائة إلى عشرين بالمائة؟ وفى الإطار نفسه قفزت أسعار ركوب أتوبيسات هيئة النقل العام بالقاهرة بما قيمته خمسة وعشرون بالمائة! ولم تسلم شعائر المصريين من (المفرمة) حيث ارتفعت تكلفة الحج البرى بين اثنين بالمائة إلى ثلاثة بالمائة لكل حاج! وثمة توقعات بأن تقفز أسعار تذاكر القطارات إلى نسبة مائتين بالمائة! وتأتى الضربات المتلاحقة _ كسيل لكمات من قفاز "كلاى" _ وردود الأفعال دائرة فى إطار "حالة الزومبى"، أعنى التألم المكتوم أو غير المرئى؟! فهل يمكن الرهان _ بأى شكل _ على استمرار هذه المتوالية النارية؟! والمدهش الذى يضارع حالة الإدهاش فى وضعية "الزومبى"، هو طبيعة الآلية التى يتخذ بها القرار الاقتصادى، فقد خصص _ مثالًا لا حصرًا _ فى موازنة العام المالى الجديد نحوًا من 330 مليار جنيه للدعم، تشمل دعم الوقود والسلع الغذائية، فيما تم تخصيص 541 مليار جنيه لفوائد الدين الحكومى وحدها! أى أن المبلغ الأكبر ذهب فعليًا لخدمة الدين! فهل يا ترى انتقلت "حالة الزومبى" إلى بعض الوزارات، فأصبح الوزراء/ الزومبى، يوقعون القرارات بشكل آلى يخلو من التفاعل أو الانفعال أو الحس الإنسانى، أو حتى قليل من الخيال للمستقبل؟! حالة الزومبى الزجاجية أو المتحجرة هى التى لازمت اللاعب المصرى النابه "محمد صلاح" حين أحرز هدفه فى مرمى السعودية _ وكان المنتخب المصرى آنذاك متقدمًا _ فلم يصدر عن صلاح أية ردة فعل تشى بالارتياح _ ولا أقول الابتهاج _ بل استدار عائدًا إلى نصف ملعبه بصمت ونظرة ذاهلة ووجوم مقبض! وهى ردة الفعل نفسها حين سُئل أحد السائقين المصريين عن الزيادات الأخيرة، فرد دون تعبير أو انفعال أو غضب أو ارتياح أو تحريك لأية عضلة بالوجه: ".. أمر واقع.."!! ويبقى سؤال العقلاء: "ما ملامح المرحلة التى يمكن أن تعقب "مرحلة الزومبى"؟! وما مخاطرها المحتملة على وطن عصفت به الآلام، كما لم تعصف من قبل؟! 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق