مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

17‏/07‏/2018




وزيرة الصحة.. منطق الإصلاح ومنطق القربان

العدد الصادر فى 2018/07/13

لا أعرف _ بصورة شخصية _ وزيرة الصحة الجديدة د / " هالة زايد " ، و ليس لدي من الوسائل و الأدوات و الخلفية المسبقة بنشاطها و جهودها ، ما أستطيع به الحكم على " أدائها " المهني / الإداري التنظيمي ، فضلا ً عن أن قصر المدة التي قضتها في رحاب " الحقيبة الوزارية " الجديدة _ حتى الآن _ لا تمكنني أو تمكن غيري ، بأية صورة من الصور ، من الحكم على أدائها و مدى قدرتها على إصلاح مناطق العوار في وزارتها المتخمة بالأزمات الهيكيلية الكبرى ، المثقلة بالأوجاع ، ووزارة الصحة هي _ في جوهرها _ وزارة " الوجع " أو بالأدق وزارة " التصدي للوجع " العضوي ، و هو منبع مميز من منابع الهم العام للمصريين ، الذين تنوشهم داءات السكر و الضغط و فيروس الكبد " سي " و النقرس و سوء التغذية و السرطان بتأثير تسمم البيئة و الغذاء و نوع المياه ! و لكنني أعرف أن العمل الإصلاحي الكبير عمل صامت في حقيقته ، لا يتعين أن تصاحبه ربابة ، أو تواكبه دفوف و زفات قائمة على الضجيج ، أو تسير في ركابه ميكروفونات غوغائية تصم الآذان و لا تقدم للمرضى كبسولا ً أو حقنة ضرورية أو جهازا ً علاجيا ً جديدا ً يرفع عنهم الكرب و الآلام !قررت وزيرة الصحة الجديدة _ فيما يبدو _ حرق المراحل للفت الأنظار إلى " منجزها الوهمي " ، الذي لا مؤشرات واضحة له حتى الآن ، و لا يكون لفت الأنظار إلا بنقر طبلة ضخمة تصم الأذن ، أو الدق على ربابة كبيرة لإجبار الجميع على الالتفات إلى وجودها ( الجديد ) ، كما يصنع البسطاء من الريفيين في الأعراس ، فيطفوفون بالدفوف و الزفات شوارع القرية ، كصورة دعائية ، تلفت أنظار الدور و البيوت إلى العرس الجديد و صاحبه ، و لا جدال أن لإخوتنا و أهلينا في الريف ، عشرات المبررات و الأعذار لتصدير بهجتهم ( المشروعة ) إلى الجميع ، و اقتناص لحظات السعادة بصورة صوتية لافتة ، من قبضة مرحلة زمنية عصية شحيحة بالبهجة ، حافلة بكل أسباب التعاسة و الحزن ، و لكن ما عذر المتنفذ القيادي في موقعه ، في أن يحاكي طريقة البسطاء في التعبير الصوتي المبالغ فيه ( بالديجيهات الصاخبة أحيانا ً ! ) للفت الأنظار إليه ، بالنظر إلى أن صميم عمل المسئول القيادي لا يفترض لفت الأنظار من الأصل ، بل رسم الخطط و الاستراتيجيات المحكمة ، و تنفيذها بصرامة و تفان ٍ لإصلاح منظومة مهلهلة مبعثرة الأطراف ، خصوصا ً في قطاع كقطاع الصحة ، يمثل واحدا ً من أسوأ ملفات المرحلة ، حيث تمر الخدمة الطبية في البلاد بمنحدر خطير ، بغياب التحديث و المهنية و التمويل و القيادات المتمتعة بالكفاءة و المؤسسات العلاجية المحترمة ، بما عرض ملايين المصريين للموت الحقيقي ، بسبب سوء المناخ و الخدمات و التضخم و ضيق ذات اليد ، و ترسخ ملامح الكارثة الاقتصادية المتكاملة !استهلت وزيرة الصحة الجديدة ، فترة وزارتها ، بتنحية كل الملفات الضخمة في وزارتها المثقلة بالوجع ، و التفرغ لاستصدار قرار عجيب _ غير مسبوق في مصر أو العالم أو حتى كوكب المشتري ! _ بتعميم إذاعة " السلام الجمهوري " و " قسم الأطباء " ، داخل المستشفيات الحكومية و أمانة المراكز الطبية ، لمضاعفة الشحنة الوطنية للمرضى و الأطباء و الفنيين و التمريض ! و لم أملك نفسي من الضحك المتصل حين سمعت الفنان المعروف " عادل إمام " يتساءل معقبا ً على قرار الوزيرة : " هل سنعزف السلام الوطني للمرضى و هم يدخلون المستشفى ، أم نعزف لهم أيضا ً عند الخروج بعد الشفاء ؟! " كما اتصلت موجات السخرية الشاملة الحزينة المريرة على رقعة الفضاء الأزرق ، حيث تساءل أحدهم في تغريدة : " هل سنعزف أيضا ً في مستشفيات الولادة _ كل ساعتين _ موسيقى " حلقاتك .. برجالاتك ! " عقب كل ميلاد لطفل ؟! و هل سنعزف في المشرحة _ مع كل وصول لجثة جديدة _ أنشودة : " .. الله دايم .. و لا دايم غير الله ! " و بالجملة هل سنختزل كل أزماتنا إلى مجرد " أزمات صوتية " ليصبح العلاج و التصدي للأزمات _ بدورهما _ مجرد " ظواهر صوتية " مصاحبة ، مضخمة بالديجيهات ، تعفينا من المواجهة و التصدي الميداني الملموس للأزمات ؟! أناشدكم التوقف عن إهانة مصر ، التي احترم طبها يوما ً " أبقراط " و رعيل الأطباء الأوائل في تاريخ النوع الإنساني ، و اعترف بفضلها العلمي التاريخي ، أعرق المعاهد العلمية .. عيب أن تختتم هذه الأمجاد بدف و طبلة و صراخ صوتي هستيري لمجرد لفت الأنظار ! هل أرادت الوزيرة أن تقدم علاجا ً هيكليا ً جادا ً لأزمات وزارتها المهيضة ، أم أرادت أن تزايد على خطاب السلطة ، و تقدم قربانا ً يضمن الاستمرار ( السرمدي ) على كرسي الوزارة ، بما يبعد عن رقبتها شبح الإقصاء أو الإقالة ؟! و لمن كان هذا الإجراء أو القرار ؟ هل توجه للرأي العام المصري ؟ أم كان قربانا ً للسلطة ليصبح إفرازا ً لمرحلة ، أدمنت الصراخ و الديجيهات ، في غير نواتج ملموسة ، تزيح عن رقاب المصريين تروس الأزمة الطاحنة الشاملة ، متعددة الأبعاد ؟!و هنا أقول إنني _ في حدود معرفتي المتواضعة _ أدرك أن قرارا ً كإذاعة السلام الجمهوري في المستشفيات ، يقتضي تركيب " نظام إذاعة داخلية " في كل مستشفى ، و هو ما يكبد الميزانية _ الشحيحة أصلا ً _ مزيدا ً من الأعباء التي لا تتوافر لها بنود ، أفلا يكون من الأفضل أن نوفر مبلغ تمويل " الإذاعة الداخلية " ، لتأسيس نظام " إنذار مبكر بالحرائق " مثلا ً في كل مستشفى ؟! أليس هذا أجدى من ديجيهات الصخب و المزايدات ، حتى لا نعرض مصر إلى نسخة جديدة من حرائق " مستشفى الحسين الجامعي " مثلا ً ؟!ألم يكن من الأجدى للسيدة الوزيرة الجديدة ، أن تتحلى بالحزم و الشجاعة الجسور ، فتطالب مجلس الوزراء ، الذي تنتسب إليه ، باحترام الدستور المصري ، و عدم دوسه بالأقدام ، حيث علمنا أن هنالك تخفيضا ً حصل هذا العام المالي _ دون وجه حق _ في ميزانية وزارة الصحة ليصل بها إلى واحد و سبعة من عشرة في المائة ، فيما تنص المادة " 18 " من دستور 2014 على ألا تقل ميزانية وزارة الصحة عن ثلاثة في المائة ؟! أليس أجدى من رفع الأعلام بالسلام الجمهوري داخل أروقة المستشفيات ، التي يفترض فيها الهدوء ، أن نرفع أيدينا عن " صحة المصريين " المعتلة ، و نحترم دستورهم الذي خصص نسبا ً معينة للعلاج ، أزلناها ب " الكوريكتور " ( المزيل ) لنتلاعب بها و بصحة المصريين ؟ ماجدوى السلام الجمهوري هنا مع هذا الانتهاك الفاضح للدستور ، الذي لا يقل في قداسته في أنظمة الدولة الحديثة عن قداسة السلام الجمهوري و العلم ؟!تكريس كرامة مصر ، لا يكون بأن ننطق _ آليا ً _ مع كل أزمة مزلزلة تخلع القلوب : " تحيا مصر " ثلاث مرات لتخدير البسطاء و التعمية على آلامهم المميتة في عملية استغفال مهينة لعقولهم و مشاعرهم ، أو أن نعزف السلام الجمهوري في قاعات الانتظار بالمستشفيات لتصدير واجهة وطنية ديكورية دون مضمون من العمل و التجرد و الإنجاز و النزاهة ، و إنما تتكرس مكانة مصر بتوفير مستلزمات طبية و أدوات صالحة داخل كل مستشفى ، و توافر الأدوية فلا تقول إدارة المستشفى للمريض الذي يطرق بابها : " اذهب و اشتر الدواء من صيدليات الخارج ثم عد لنا ؟! " تكريس مكانة مصر يكون بأن نوفر خدمة طبية معقولة الثمن للمريض و نعامل الجميع بمساواة دون محاباة أو تحيز فلا يموت الفقراء المرضى الذين تم تنفيض جيوبهم بالزيادات المجنونة ، على أعتاب المستشفيات التي عجزوا عن دخول قاعاتها و مبانيها بسبب ضيق ذات اليد ! تكريس مكانة مصر الوطنية يكون بألا نفاجأ بأن نصيب الفرد المصري من العلاج _ في المتوسط للعام المالي الجديد _ سبعة و ثلاثون جنيها ً في الشهر ، و هي نسبة لا توجد في دول المجاعات الإفريقية أو جمهوريات الموز ، و معنى هذا أن المصري مطالب بأن يمرض مرة واحدة في العام " مرضا ً خفيفا ً " ليتمكن _ بالكاد _ من البقاء على قيد الحياة ! ! تكريس مكانة مصر الوطنية لا يصنعها " سلام معزوف " _ في كل دقيقة أو مكان _ لتصدير مجرد حالة صوتية ، ثم تفاجئنا إحصائيات العام المالي الجديد و بياناته الصحية ، بأنه على مستوى أسرة العناية المركزة مثلا ً ، يوجد سرير واحد لكل ستة عشر ألف مريض ( في الحضر ) و سرير واحد لكل عشرين ألف مريض ( في القرى ) ! أي كرامة وطنية لطبيب ، يتقاضى في المتوسط _ على نحو ما يتقاضى أطباء الاستقبال _ خمسة و أربعين جنيها ً مقابل اثنتي عشرة ساعة عمل في النوبتجيات المسائية ؟! أي كرامة يمكن أن تتبقى بعد هذا الإذلال ، أو يواريها عزف السلام الجمهوري في المستشفيات ؟! و في ملفات وزارة الصحة مئات الأمثلة الأخرى الناضحة بالكآبة ؟!إذا كانت بعض مراحل مصر قد أنتجت حالة من " التدين الشكلي " دون إصلاح القلوب ، فإن المرحلة الراهنة قد أنتجت _ بضجيج إعلامها الصارخ دائما ً ، المحرض على طول الخط _ حالة موازية من " الوطنية الشكلية " التي تقوم _ في أساسها _ على الصراخ و ثقافة الديجيهات ! و ردا ً على بعض المتبنين لمنهجية " تقديم القربان " قال " أبو هريرة " _ رضي الله عنه _ : " أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) أن نحثو في وجوه المداحين التراب " ، و اكتشفنا مع تطور الزمن أن هناك " مدحا ً متملقا ً " ، لا يكفيه تراب الأرض كلها ؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق