مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

30‏/07‏/2018



قسمتى.. ونصيبى!

العدد الصادر فى 2018/07/27

بمرور الوقت، تتسع مساحة الانقسام المجتمعى فى مصر بصورة هيكلية خطيرة غير مسبوقة، وتتعاظم عوامل التنافر المحزن بين مكونات المشهد المصرى وفئاته، وتتوطد رقعة الحقد والكراهية السوداء المتمكنة من القلوب بين أطياف المشهد (المنشق على ذاته) وتياراته المتعادية (ولا أقول المتعارضة!) بعد أن ضرب فيروس الانقسام السياسى والإيديولوجى العميق طول البلاد وعرضها، وتحولت الفضائيات المعبرة عن هذا الانقسام إلى قذائف سباب مركز موتور، كما تحولت المساحات الصحفية المجسدة لهذا التعارض الشامل بين الأطياف إلى نشرات حقد أسود لوث الوطن، وملأ النفوس شكًا وسوء ظن لدرجة أن أى نقاش عارض بين اثنين يمس القضايا العامة _ ولو من بعيد _ لا يلبث بعد عشر دقائق، لا أكثر، أن يتحول إلى معركة صاخبة متهوسة مفتوحة بلا سقف يمكن أن تتمزق معها الملابس أو تشهر المطواة!. وفى إطار هذا الشق المشبع بالعداء، والاستقطاب المتصاعد تحولت خطابات التيارات السياسية الأساسية فى مصر إلى أبواق ناعقة عنصرية، تنادى بالاستئصال والاقتلاع! وبقى سؤال العقلاء مع هذا المد النيرانى من البغض والتربص، الذى يعكسه حجم التلاسن السياسى والإيديولوجى الرهيب على "الفيسبوك": "كيف سيتعايش الفرقاء مجددًا؟! وبأية وسيلة؟! ومن لديه _ الآن _ القدرة على ترسيخ واقع المصالحات والانفراجات الوطنية، بعد أن أنهكت الوطن المعركة الصفرية المفتوحة منذ سنوات؟! وهل "الاستئصال الكامل" لهذه الفئة أو تلك، أمر ممكن نظريًا؟! وهل أمكن هذا الاستئصال فى الماضى تاريخيًا ليشكل سابقة محل احتذاء أو اقتداء؟! وهل ثمة أجنحة داخل السلطة، أو داخل التيارات المدنية المعارضة المختلفة، تؤمن من الأصل بـ"إمكانية الانفراجات الوطنية" أم أننا أمام (خرافة العنقاء) التى تحدثت عنها الأساطير القديمة؟!. تمضى أسئلة "الانفراجات الوطنية" لتشكل هاجسًا أساسيًا للمرحلة، بعد أن شاخت خطوات الوطن بصورة ملحوظة بفعل الانقسام، وتقلصت إمكانات مصر السياسية والتنموية والدولية، كما لا يخفى على أى مراقب، فى كل المستويات والأصعدة، بل أوشك مفهوم "الأمة" أو "العائلة الواحدة" أن يتآكل، بعد أن تمكنت المشروعات الاستئصالية من الأدمغة والعقول بهوس عدائى لم تعرفه مصر يومًا، بفعل ترسخ الخطاب التحريضى الإعلامى الذى عكر الفضاء المصرى بالسم الزعاف، وأقنع شريحة من الرأى العام بإمكان استبعاد ثلث المصريين مثلًا وسحقهم، ليعيش الثلثان المتبقيان فى رحاب الفقه المتهوس الجديد، الذى يراد تصديره لنا باعتباره حلًا، باستدعاء سردية "المشرط" الذي يسيل دمًا ليعالج، ولا مفر من شق الجلد بنصله المسنون، فبدونه لا يكون العلاج! وينسى الماضون فى معركة "الثلث" و"الثلثين" (المعركة المفترضة أو الوهمية!)، أن ثمن المعركة يمكن أن يكون تحول الأرض التى نقف فوقها إلى "أنقاض وخرائب" عديمة النفع، تتجول فيها الغربان!. حاول الروائى الكبير الراحل "نجيب محفوظ" (1911 _ 2006)، أن يقرأ المستقبل، بقرن استشعاره الرهيف، وينبه الكتلتين الكبيرتين فى المشهد المصرى، إلى حجم الأزمة القادمة الضخمة، التى لن تعالج بغير الانفراجات الوطنية والترسيخ لمنهجية التعايش لا الاستئصال، وأقصد بـ"الكتلتين الكبيرتين" (التيارات الإسلامية المختلفة) من وجه، و(التيارات الليبرالية واليسارية والقومية والناصرية) من وجه آخر، فقدر الكتلتين _ فيما يرى "محفوظ" _ أن تتعايشا بنظرية (العقد الاجتماعى) التى ترسخ القواسم المشتركة ونقاط الاتفاق _ لا الاختلاف! _ لتتمكن السفينة من الإبحار، وبدون هذا التعايش، فلا أمل للسفينة فى أية توقعات للنجاة، وقد بلور "نجيب محفوظ" رؤيته فى قضية التعايش بين الفرقاء فى قصة ملهمة عجيبة له بعنوان: "قسمتى.. ونصيبى!" _ من مجموعته القصصية: "رأيت فيما يرى النائم" _ وتحكى القصة أن "محسن العطار" أنجب ولدًا عجيبًا بجسم واحد ورأسين! فاضطر الأبوان إلى التعامل مع التوأم الملتصق، بمنطق مراعاة الاختلاف الفكرى المفهوم بين الرأسين، والتوحد في الأدوات فكلاهما يمتلك بطنًا واحدة وذراعين مشتركتين، ورجلين لا أربعًا! وأطلق الأبوان على صاحب الرأس الأولى "قسمتى"، وعلى صاحب الرأس الثانية "نصيبى"، ومضى الأخوان الملتصقان، بفكرين مختلفين، وأدوات مشتركة واحدة، يشقان طريقهما بصعوبة شديدة في الحياة، واختلفا كثيرًا على بعض الملفات والقضايا، فتعاركا بالأيدى واشتبكا بعنف "فدميت شفة (نصيبى)، وورمت عين (قسمتى)"، وتمنى كل منهما الموت للآخر، ليخلو له الجسد، بإمكاناته المتاحة، وظل الأب "محسن العطار" يتذكر نصيحة الطبيبة، التى تولت، منذ البداية، توليد التوأم الملتصق: ".. انفصال جزء عن الجزء الآخر مستحيل..!" وعاش كلاهما _ كما يقول "محفوظ" _ "نصف حياة، وتعلقا بنصف أمل"!. وفجأة مرض "نصيبى" مرضًا خطيرًا، لا ينفع معه طب ولا عطارة، وأدرك "قسمتى" حجم الكارثة القادمة، بعدم قدرته على إدارة إمكانات الجسم المشترك منفردًا، مع أنه كان يتمنى طول الوقت موت الرأس المصاحبة، وعندما رحل "نصيبى" عن الحياة أيقن "قسمتى"، "أن الحرية التى حظى بها وتمناها (بقتل الآخر!) ليست إلا وهمًا "ف" جفت ينابيعه "وهتف بهلع ورعب: "إنى أنتظر الموت..!". ويبدو أن حزبى "قسمتى ونصيبى" فى مصر لم يفهما رسالة محفوظ، ولعلهما لم يفهماها حتى الآن، فالأمم المحترمة لا تعالج الفروق الفكرية والإيديولوجية، بمدفع الاقتلاع والاستئصال، بل تعالج هذا الواقع الاستقطابى بما يسمى فى أدبيات السياسة الحديثة بـ"مشروع العدالة الانتقالية"، كما صنعت الأرجنتين والبرازيل وتشيلى وتيمور الشرقية ورواندا وغيرها من البلاد، التي أنهت واقع الشق والاستقطاب والاحترابات الداخلية، بنماذج العدالة الانتقالية، التى تكرس تعايش الفرقاء، وتصنع للجميع مستقبلًا مشتركًا، لا ينقسم فيه الشعب إلى "أهل خير" و"أهل شر"! وكان من أكثر نماذج العدالة الانتقالية نجاحًا نموذج "جنوب إفريقيا"، التي أنهت عقود الاحترابات والعداء الأسود بين البيض والسود، بمشروع عدالة انتقالية رفيع، قاده سياسى متسامح مثقف مفعم بالخيال السياسى الخلاق (نيلسون مانديلا)، ورجل دين مستنير معطاء محب للجميع (القس ديزموند توتو). في مصر كثيرون مستعدون _ بكامل جهوزيتهم _ ليقوموا بأدوار مانديلا وتوتو فى إقرار الانفراجات الجادة، شريطة أن تتراجع أجنحة العداء المتهوس، وتصمت أبواق التحريض، ويوقن الجميع أن ألسنة النيران ليست جزءًا من الماضى، ولكنها امتدت، لتأكل خيوطًا من المستقبل، الذى يخص أولادنا! هل وصلت الرسالة هذه المرة بوضوح؟! كلاكيت للمرة المائة: موت "قسمتى" أو "نصيبى" ليس حلًا، لكنه بداية النهاية!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق