مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

25‏/08‏/2018

أحمد خالد توفيق.. «يوتوبيا» الأغنياء وسحق الفقراء


ثبت بالمؤشرات الكثيرة، أن الدولة لم تستخف يومًا (دم) الروائى الكبير أحمد خالد توفيق، ولم تسترح مطلقًا إلى أفكاره التى استوطنت عقول الشباب ووجدانهم، الذى تشكل منذ الثمانينيات فى رحاب روايات "خالد توفيق" ونصوصه الممتعة المدهشة، ولا أدل على ما أقول من أن الدولة المصرية لم تقم "جنازة رسمية" لخالد توفيق، وشن عليه أبواقها الإعلامية، حملة ضخمة _ عقب رحيله _  وأطل "عمرو أديب" من نافذته الإعلامية المصحوبة بالضوضاء متسائلًا بعد رحيل "خالد توفيق": ".. لماذا اتشح "الفيسبوك" بالسواد هكذا؟ وما السر العجيب فى مظاهرة الحب _ الشبابية أساسًا! _  التى انفجرت على الفضاء الأزرق كعاصفة الخماسين، تجدد ولاء الحب وزهوره للروائي الكبير صاحب روايات: "شآبيب" و"ممر الفئران" و"مثل إيكاروس" (الفائزة بجائزة الشارقة عام 2016) و"السنجة"؟! "كان تساؤل" عمرو أديب "المستنكر جزءًا عضويًا من موقف السلطة المتشكك فى "خالد توفيق"، الذى زادت مؤلفاته على مائتي مؤلف، توزعت على ست سلاسل تقريبًا. 
ويتصور كثيرون أن "خالد توفيق"، الذى لم تقم له أية مؤسسة ثقافية رسمية  فى مصر حفل تأبين لرثائه، أقول يتصور كثيرون أنه برع فقط فى (أدب الرعب) أو (أدب الخيال العلمى)، دون أن يدروا أن الروائى الكبير الراحل، كان معنيًا بقضية (الأغنياء والفقراء) فى مصر، وأنه تحدى نقاده، برواية مميزة كتبها عام 2008 بعنوان: "يوتوبيا" (دار ميريت). 
وهى أول رواية اجتماعية له _ وقد حصلت على المركز الثانى فى قائمة أكثر الكتب مبيعًا عام نشرها _ ويتخيل فى روايته البديعة، أن مصر عام 2023، ستتحول، بصورة إلى طبقتين متعارضتين متعاديتين، "طبقة ثرية" ستلجأ إلى مدينة كبيرة محصنة بالأسوار، ويحرسها مسلحون أشداء فى احترافية المارينز وقوتهم، والأخرى طبقة فقيرة معدمة، تعيش فى العشوائيات، وتبتلع إحباطها وأحلامها المكسورة المجهضة! ويفصل بين الطبقتين سور مرتفع، يحمى الطبقة الأولى المرفهة من أية هبات شعبية كبيرة، يمكن أن تشنها الطبقة الثانية، الساكنة فى القاع!.
لفتت رواية "يوتوبيا"، القائمة على النبوءة الكابوسية، بشكلها الطبقى المرعب، أنظار كثيرين، ودفعت الفكرة التى طرحها "خالد توفيق" كثيرين إلى أن يذهبوا، فى تصور استمرار الشق الطبقى بين الأغنياء والفقراء فى مصر، إلى مدى يربط التصور بمزيد من الرؤى الكابوسية، المؤسسة على التطاحن أو الصراع الضخم الدامى، من أجل لقمة الخبز والسكن والعلاج الطبى الآدمى والعمل وفرص الحياة! وبرغم من نجاح "خالد توفيق" فى تحقيق التميز اللافت، من خلال سلسلة "ما وراء الطبيعة" (80 عددًا) و"فانتازيا" (64 عددًا) و"سفارى" (52 عددًا) وغيرها من الأعمال الإبداعية الناجحة، فإن رواية "يوتوبيا" _ التى تحمل مذاقات التحذير والنبوءة _ ظلت تمثل إغراءً لكثيرين، فحصدت أعلى نسب القراءة بين المصريين _ ومازالت _ حيث ينتعش حلم رأس المال السياسى فى مصر، بأن يقيم فى قلعة محصنة معزولة، بعد أن وثق بفعل ممارساته الاحتكارية، من أن الكثرة المطلقة من المصريين (ملح الأرض)، معبأة بكراهية تاريخية متكتلة ضده وجاهزة للانفجار فى أى وقت! ولا مفر من الاعتصام بالمدينة/ القلعة، "يوتوبيا" الأغنياء التى تضمن لهم الحماية والمستقبل من غضب الفقراء ونقمتهم المكتسحة القادمة!.
يتجدد الكلام عن رواية "خالد توفيق" ذات الطابع التنبؤى، كلما تجدد الكلام _ بالتوازى _ عن فلسفة العاصمة الإدارية الجديدة واستراتيجياتها ومغزى المبانى المتنوعة والمرافق التى تقام على أرضها، وثمة تصريحات خرجت من بعض القيادات، بأن هنالك نية لنقل خمسين ألف موظف إلى العاصمة الجديدة، العام المقبل، دون أن يخبرنا أصحاب هذه التصريحات: من هم هؤلاء الموظفون؟ وما نوعية وظائفهم؟ وهل ينتمون للطبقة المتوسطة أم الطبقة الأرستقراطية، العائشة فى البرج العاجى؟ ولا جدال أن تآكل خطاب العدالة الاجتماعية، وضغوط السياسات الاقتصادية المتبعة الآن، التى حطمت ضلوع البسطاء، ومزقت عظامهم، قطعة قطعة، كل أولئك كان مسئولًا عن الربط بين "يوتوبيا" خالد توفيق، وفلسفة العاصمة الإدارية الجديدة، خصوصًا مع شح المعلومات المتاحة عن هذا البنيان، الذى مازال غامضًا لقطاع كبير من المصريين!.
حذر الجيولوجى المصرى الكبير، المفكر د. "رشدى سعيد"، من انحدار مصر تدريجيًا، إلى هاوية كتلتين كبيرتين، لا تطيق إحداهما الأخرى، إحداهما يسميها بـ"الكتلة الغاطسة" _ وكأنها مختنقة تحت الماء! _  وتمثل 86 بالمائة من المصريين، ولا تنال سوى 26 فى المائة من الناتج القومى! فيما تتمتع الكتلة الثانية، ويسميها "الكتلة الطافية" بكل المزايا والأفضليات، حيث تتحصل هذه الطبقة الطفيلية، وتقدر بـ14 فى المائة من المصريين على ما يقارب 74 فى المائة من مجمل الدخل القومى! (راجع د. رشدى سعيد: "الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى"/ ص 15 وما بعدها/ دار الهلال 2002 ).
هاجس الكتلتين المنفصلتين _ طبقيًا _ فى مصر يتسع ويتأكد مع استمرار ضرب الناس فى الخلاط بهذه الصورة الارتجالية، بالغة القسوة، ومع كل ارتفاع جنونى أو عشوائى فى سعر سلعة أو خدمة أو مرفق، يقرأ الملايين الفاتحة على روح "خالد توفيق"، الذى خلد مخاوف الفقراء وهاجسهم، من خلال رائعته: "يوتوبيا" التى دخلت عدة أعوام فى قائمة (الأفضل مبيعًا) Best seller. 
وقد تذكرت فى هذا السياق، ندوة أدرتها قبل ثلاثة أعوام تقريبًا للمفكر الكبير الراحل د. "السيد ياسين"، حيث رفع يديه إلى جوارى فى الهواء صارخًا، بصورة ارتجت لها القاعة: "إن رأس المال فى مصر يتحصن بوضوح خلف أسوار!.." وبين صرخة السيد ياسين ونبوءة "خالد توفيق" فى "يوتوبيا" وأسئلة العاصمة الجديدة، تترسخ الأسئلة المتنامية حول المدى الذى يمكن أن تصل إليه الطبقة المتوسطة والدنيا، فى تحمل مزيد من الضغوط الرهيبة، التى أطبقت على عظام الظهر، وأوشكت أن تمزق تمامًا فقراته القطنية وأنسجته الصارخة بالألم!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق