مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

29‏/07‏/2017

د. علي جمعة.. وقفة تأخرت كثيرًا

يبدو أن استمرار الصمت بإزاء آراء د " علي جمعة "  ( 1952 _ .. ) ، و فتاواه العجيبة التي وصلت إلى مستوى الاستعانة بالأبراج _ هل يدخل في هذا أيضا ً فتح المندل ؟! _ ، و الكلام عن " الأولياء الزناة " ، و تنسيب الملكة " إليزابيث " إلى " آل البيت " ، لولا أن جدها اعتنق ديانة أخرى _ فيما يرى د علي جمعة ! _ و غيرها .. و غيرها من القضايا ، التي فجرها الرجل على الملأ . و لم تكمن دهشتنا في مستوى الطرح ، أو آلية الاستدلال الفقهي الهشة ، و ضعف القدرة على استنباط الأحكام من النصوص المتواترة الصحيحة ، و لا في سذاجة الفكرة و انقطاع صلتها بالواقع الخارجي ، المثقل بالهزائم و الانتكاسات و المعاناة الدامية _ بالمعنى الحرفي للكلمة _ و هي المعاناة العامة للشعب المصري ، التي كان د جمعة نفسه جزءا ً عضويا ً من صناعتها و تسويقها و فرضها على المشهد المصري بالقوة ، يوم كان بالإمكان أن نفتح حوارا ً بين الفرقاء و المختلفين سياسيا ً ، و نتجنب خيارات اللهب و الموت و زخات الرصاص الحي ! أقول لم تكمن دهشتنا في هذا كله ، بل في قدرة د جمعة _ تلاؤما ً مع نبض المرحلة الراهنة _ على تسويق ( الديني ) و توظيفه في خدمة ( السياسي ) ، وفق الكتالوج الذي أراده صناع المرحلة الراهنة ، يتمنى صانع القرار ، فيبادر د جمعة إلى انتزاع الفتوى بطريقة إكروباتية عجيبة ، لتحويل أمنية صانع القرار إلى فتوى جاهزة / ناجزة ، ليس من حق أحد مراجعتها أو مساءلتها ، و تهمس السلطة برغبتها _ مجرد همس ! _ مهما تكن هذه الرغبة عنيفة ، فيتحول هذا الهمس _ في مصفاة د جمعة و ماكينته الخاصة بالإفتاء _ إلى رأي ( ديني ) نافذ ليس من حق أحد أن يعلق أو يعقب عليه ، و تتردد أجنحة متنفذة داخل السلطة في الضغط على الزناد و استهلال ماراثون الموت الدامي الرهيب ، يوم كانت ميادين الاعتصام مشتعلة بالاحتجاج ، مكتظة بالبشر من كل الأعمار و الرؤى ، فيبادر الرجل _ بضمير مستريح _ إلى مباشرة أسوأ خطاب تحريضي أسود مارسه صاحب عمامة في تاريخ الدولة المصرية الحديثة ( منذ عهد " محمد علي " ! ) داعيا ً المترددين إلى " .. الضرب في المليان ..! " صراحة دون تمييز ، و إخلاء الميادين بأريحية : " .. طوبى لمن قتلهم و قتلوه .." ، دون أن يحدد عناصر القياس الفقهي من مقيس و مقيس عليه ، و دون أن يتحسب لفروق الزمان و المكان وواقعة الحال ، و دون أن يتبصر _ بالمسئولية و العمق الواجبين _ للدلالة الخطيرة لإلصاق صفة " الخوارج " بتيار ضخم ، ينتظم في مساحته ملايين المصريين ، و ما يترتب على إخلاء الميادين ، بالرصاص الميري ، من تداعيات مستقبلية خطيرة ضمن ما يعرف ب " فقه المآلات " .
 و قد اختلفت شخصيا ً مع الإخوان في أمور كثيرة ( معلنة ) ، بما دفعهم إلى إزاحتي من مرفق الثقافة لسبب لا أدريه ! و لكني آليت على نفسي أن أناقش و أوجه و أختلف بالفكرة و الحجة _ مهما تكن درجة الخصومة و الاختلاف _ دون أن ألجأ للمزايدة الرخيصة و استعداء السلطة ضد خصومي ، من أي تيار إيديولوجي ، و هو ما يتعين أن يلتزم به أي مثقف ، يريد لأمته أن تنعم بالسلم الأهلي ، و تحتوي الخلافات الفكرية و السياسية ، في عملية سياسية صحيحة ، تدمج الجميع وفق مخرجات اللعبة الديمقراطية و خياراتها .
 تراكمت فتاوى د علي جمعة ، ذات الطابع التحريضي لاستباحة الخصوم السياسيين ( ذوي الرائحة النتنة ! ) ، و نجم عن هذا الخطاب التحريضي ، المتلفع بثوب " الفتوى الدينية " باعتبار " المعارض " " خارجيا ً " ، صراعات ضخمة ، حسمت حالة التردد لدى الأجنحة المترددة داخل السلطة  في توسعة مساحة الصدام و نوعيته ، و مع انفلات أول طلقة ميري ، توالت _ كما توقعنا للأسف _ التوابيت و الجثث كصنبور المياه المفتوح ، حتى لحظة كتابة هذه السطور ، دون أن يتمكن أحد من إنقاذ أبنائنا _ من المدنيين و العسكريين على السواء _ من سعار القتل و عجلته المجنونة الدائرة !
 و لا أدري كيف يستطيع د علي جمعة أن يغمض عينيه _ بنوم مستريح _ و الضحايا من المدنيين و العسكريين _ في كل المحافظات _ قد تراكموا ألوفا ً كنتيجة مباشرة لتنحية السياسة جانبا ً ، بغطاء ديني ، كان هو أبرز رموزه ، و استفزاز حالة الصراع الدامي / الصفري ، التي تصور البعض أنها صفحة كتاب سرعان ما تطوى ، دون أن يدروا أن لكل فعل " ردات فعل " في المستقبل القريب ، أو البعيد . ، قد تستخدم هي الأخرى _ في أعلى سقوفها الراديكالية _ السلاح الحي ، و قد بادرت فتاوى الاستباحة بالفعل ، إلى استفزاز الصراع الصفري ، الذي كنا نتجنبه منذ البداية بالبدائل السياسية ، و تأكد لدينا أن استفزاز هذا الصراع الصفري و استهلاله ، كما أكدت معادلات التاريخ منذ الازل ، و قلب مائدة اللعبة الديمقراطية رأسا ً على عقب ، قد يبدو أمرا ً سهلا ً ، لكن إيقاف هذا الصراع الصفري ، أو التقليل من سرعته المجنونة ، و استعادة ثقة الناس مجددا ً في المسار الديمقراطي ، أمر لن يتحقق ثانية إلا بشق الأنفس ! بوضوح اختارت ( تونس ) الحوار بنفس طويل مهما يكن الثمن ، و اختارت ( مصر ) _ بضغط الخطاب التحريضي و فتاوى الاستباحة التي قادها د / علي جمعة _ الإقصاء و الانفراد بوجهة وحيدة ، نجني الآن فشلها المر في حلوقنا مرارا ً و حنظلا ً ، في كل المستويات السياسية و الاقتصادية . . و مازلت أذكر مرارات أستاذة أكاديمية بجامعة " شيكاغو " و هي تسألني _ قبل أشهر _ بأسى : " لماذا لم تصبروا على المسار الديمقراطي قليلا ً ، و تغيروا بالصندوق إذا رأيتم ذلك ضروريا ً لإزاحة الفاشلين متى ثبت فشلهم ؟ " و لماذا انعطف المسار بعد 3 / 7 إلى متوالية الموت ؟! " و هو سؤال لم أستطع _ حتى الآن _ أن أجيب عنه !
 و بوضوح هل كان د علي جمعة ، ابن محافظة " بني سويف " و مفتي الديار المصرية من 2003 حتى 2013 ، يعي و هو يقص شريط المشروع الصراعي الدامي ، و يقدمه مرة بمحضر القيادات العسكرية في لقاء عام ، و الجميع يترقب كلمة الشرع من فمه ، و مرة أخرى مرتقيا ً المنبر ، و مكررا ً _ بالفم الممتليء _ : " طوبى لمن قتلهم و قتلوه .." ، أقول هل كان يعي " المآلات الدامية " لخطابه الفقهي التحريضي ، حيث لم نعد قادرين على إحصاء الموتى و الضحايا ، الذين تطايرت دماؤهم في كل الاتجاهات ؟!
 تحت يدي كتاب  للدكتور " علي جمعة " بعنوان : " البيان لما يشغل الأذهان / مائة فتوى لرد أهم شبه الخارج و لم شمل الداخل " ( المقطم للنشر و التوزيع / ط1 / 2005 ) ، و هو كتاب يقع في نحو من مائتين و سبعين صفحة ، تأثر فيه د جمعة _ فيما يبدو _ بكتاب الشيخ " محمد الغزالي " : " مائة سؤال في الإسلام " ، و شتان بين الكتابين و الرجلين في طبيعة النتائج و الدور التاريخي لكل منهما ، و يلاحظ أن " لم الشمل " عبارة تتصدر العنوان ، فهل حققنا _ و السؤال للد جمعة _ خطوة واحدة في " لم الشمل " _ بفكره و فتاواه و طبيعة مواقفه السياسية _ أم أننا مزقنا الجسد إلى ( مائة قطعة ) فجزأنا المجزأ و قسمنا المقسم ؟!
 و لم يكتف د / جمعة بذلك بل نقل مغامراته إلى ( الدائرة العربية ) في استثمار رديء للخلاف الخليجي / الخليجي  ، فأعلن أن " قطري بن الفجاءة " ، إمام الخوارج الأزارقة ، قد نزل قديما ً ( قطر ) ، هاربا ً من العراق ،  فسميت باسمه ، و أصبحت منذ هذه الساعة ، محط ( الخوارج ) !  و أن " المهلب بن صفرة " ( و قد نطق اسمه بطريق الخطأ لأن اسمه " المهلب بن أبي صفرة " !) كان ( إماراتيا ً ) نجح في طرد الخوارج من قطر قديما ً ! و للمرة المليون يتم توظيف ( الديني ) لخدمة ( السياسي) برداءة و عجرفة . فنحن نعرف جيدا ً فيما ذكر  ( ياقوت الحموي ) في ( معجم البلدان ) أن أصول الرجل  ( قطري ) ترتد إلى ( العدان ) ( من أعمال الكويت ! ) و فيما تطبق كلمة المؤرخين الثقات على أن ( المهلب ) أزدي ولد في " دبا " بسلطنة عمان  ، فلا علاقة للرجلين بقطر و الإمارات ! بوضوح أقول للد جمعة : انظر إلى الخلف _ في مدى ثلاث سنوات فقط _ لتدرك كم إنسانا ً قتل بأثر مباشر من فتاواك ، و أعد النظر إلى شهادة ميلادك ( تاريخ الميلاد تحديدا ً  ) لتتاكد أنه لم يبق في أعمارنا الكثير لمزيد من الذهاب إلى منطقة التيه و فتاوى التحريض و الاستباحة ، التي قصمت ظهر الوطن ! و للحديث بقية .


من جريدة (المصريون)
بتاريخ 28 يوليه 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق