09‏/07‏/2017

(الحجب) أقصر الطرق لانهيار الدولة ..! ‎

كان الحل السحري لأزمات الداخل المصري ، أعني الحل الذي تفتقت عنه عبقرية مستشاري المرحلة الحالية و صناعها ، مزيدا ً من الإسكات و ( حجب المواقع ) الإخبارية ، و إقامة حاجز صوت ضخم يفصل بين الناصحين و أصحاب الرؤى الوطنية المستقلة ، و بين آذان الجميع ، حكاما ً و رأيا ً عاما ً . حجب ( فرسان المرحلة ) _ إذن _ عددا ً من المواقع الإخبارية و الصحفية ، حتى لا يسمع أحد صوتا ً صادقا ً حرا ً ، ينبه إلى الأخطاء ، و يطرح الأضواء على العوار و مناطق الخلل ، و قرر أصحاب قرار الحجب أن يصبح الجميع سربا ً واحدا ً ، يغرد نفس الأغنية ، و يعزف اللحن نفسه ، و يرقص لأية قرارات مهما كانت مرتجلة أو كارثية ، و الويل كل الويل لمن يغرد خارج السرب ، أو يتمرد على اللحن الأحادي الجماعي ! و أصبحت كلمة " الحرية " هي الكلمة / المحرمة ، التي يخشاها الجميع ، و يتجنبها بحذر جوقة الإعلام الرسمي !
 تصور فلاسفة ( الحجب ) ، أن بإمكانهم أن يسدوا الفضاء بالأسمنت ، و أن يحشوا " السماوات المفتوحة " ببعض الخرق و الأقمشة القديمة ليحولوا بين ( الأفكار ) و بين الطيران الحر الطليق ، الذي يصل بهذه الأفكار إلى الناس جميعا ً ، دون أن يدري ( فرسان الحجب ) أن " السماوات المفتوحة " واقع فرض نفسه عالميا ً منذ مطالع الثمانينيات من القرن الماضي ، و أن تحويل السماوات المفتوحة ، إلى سماوات مغلقة ، خرافة مستحيلة التحقق ، كخرافة العنقاء في الأساطير القديمة ! و هكذا أمعنت السلطة في إغلاق الفضاء العام ، و تأميم المشهد الإعلامي و السياسي لآخر سنتيمتر ، لينعم الناس بصوت " دي . جي " أوحد و مكبر صوت منفرد _ كذلك الذي يستخدم في حفلات الزفاف  الشعبية ! _ و يكون من شأنه أن يغطي على كل صوت آخر ، و بقي صوت الدي  . جي ، الذي يطنطن بالمنجزات وحدها ، و يتمايل بالصاجات للرفاهية القادمة ، هو الصوت المهيمن الذي يتعين أن يستمع إليه الجميع دون نقاش !
 و تتكرر ، مجددا ً ، قصة القيصر القديم ، الذي كان أمامه ( حفرة ضخمة ) ، و إلى جواره أخلص الناصحين له  يقول عبارة وحيدة ، و يكررها مرة بعد مرة ، و ضاق القيصر بإلحاحه ، فطلب من الحاشية و الندمان دق الدفوف بصوت مرتفع مزعج ، لحجب صوت الناصح اللحوح ، و عندما هوت قدما القيصر و سقط في الحفرة ، و صمتت الدفوف المجرمة المنافقة عن الدق ، برز صوت الناصح الأمين واضحا ً هذه المرة : " .. أردت فقط أن أقول لكم أمامكم حفرة ! " و هكذا تنطلق معزوفة مدينة الإنتاج الإعلامي _ بكل ميكروفوناتها و فضائياتها التي يسندها رأس المال السياسي _ لتحجب كل الأصوات المحذرة من الحفرة المخيفة التي تقترب منها الأقدام تدريجيا ً ، و حين تقترب الحفرة إلى أقرب  مناطق الخطر من جسد الوطن ، سيكون أصحاب الدفوف الغوغائية ، هم أول القافزين من السفينة كعادتهم ! و لم يدر ِ أصحاب قرار الحجب ، المفاخرون بأنهم حجبوا ما يزيد عن عشرين موقعا ً ، بضغطة زر ، أو بمكالمة تليفونية ، أو بكارت توصية ، أقول لم يدر ِ هؤلاء أن قرارات المصادرة تبقى في جسد التاريخ وشما ً  قبيحا ً ضخما ً لا ينمحي أو يمكن طمسه ! فالخليفة العباسي " المهدي بن المنصور " _ برغم منجزاته الضخمة _ لم يستطع أن يحذف من صفحات التاريخ فعلته النكراء بالتصفية الجسدية للشاعر الكبير : " بشار بن برد " لتكميم فمه ، و إسكات صوته ! فبقيت فضيحة اغتيال بشار بن برد عارا ً يلاحق صاحبه دون أن يجدي ندم ، أو تنفع تأوهات ! كان المبرر في حالة حجب المواقع جاهزا ً ، الكلمة السحرية التي تفض قفل الباب دائما ً : " الإرهاب " ! دون أن يخبرنا الحاجبون عن طبيعة الممارسة الصحفية أو الإعلامية _ تفصيليا ً _ أعني الممارسة التي استحقوا بها وصف " الإرهاب " ، و من وجهة نظر من ؟ و ما المعايير أو المضامين التي تجعل من تحقيق صحفي ، أو مقالة أو عمودا ً صحفيا ً عملا ً إرهابيا ً ؟ ! و فيم التشنج الشديد بالمسارعة في الحجب ، و كثيرون من كتاب المواقع المحجوبة ، كانوا أفضل عون للدولة ضد الإرهاب الحقيقي بصناعة الوعي ، و تفنيد الفكر المتطرف بقوة و شفافية ، و مساعدة الجميع _ حكاما ً و محكومين _ على أن يروا الجزء المحجوب من الصورة ؟! و لمصلحة من يكون الوطن المصري كتيبة عميان لا ترى الحفر العميقة الكثيرة ، التي تنتشر على الطريق  القادم بكثافة ؟!
 و من المضحكات / المبكيات ، أن حفنة قليلة من الشباب و ناشطي الفيسبوك ، قد نجحت في نشر شفرة الفض الخاصة بالمواقع المحجوبة و تشييرها على نطاق واسع ، حيث تمكن ملايين المتصفحين من استعادة المواقع المحجوبة في لحظات ، ليفاجأ فرسان الحجب بأن قرار تسويد شاشات الكمبيوتر ، مجرد حرث في الماء ، و أمنية ساذجة ، مستحيلة التحقق ، حيث عاود النشطاء تداول أخطاء المرحلة و كوارثها ، في الفضاء الأزرق بحرية مطلقة كما أرادوا هم لا كما أرادت لهم أجنحة متنفذة داخل السلطة !
 واهم إلى أبعد مساحات الوهم ، من يظن أنه يمكن مباشرة عمل إنمائي اقتصادي كببر ، أو بناء حجر على حجر دون حرية ، و بالمثل فلن يمكننا جلب مستثمر واحد مهم ، أو بناء مصنع كبير ، أو إقامة مستشفى طبي مميز ، أو تشييد مدرسة مرموقة أو جامعة راقية دون حرية ، لن نتمكن من تعبيد طريق أو رصفه بكفاءة ، و إقامة شبكات كهرباء أو طرق أو صرف صحي دون حرية ، و لن نتمكن بالمثل من مناهضة تحدي سد النهضة ، أو مجابهة الإرهاب الحقيقي في  سيناء و بعض المحافظات أو إحداث تجديد جذري جاد  في الخطاب الديني  أو صناعة ثقافة رفيعة  دون حرية ! يعرف الجميع داخل مصر و خارجها أن حل الأزمة المصرية الراهنة المستحكمة ، رهين بصياغة " عقد اجتماعي "  كبير واسع يدمج الجميع في المشهد ، و يجمع كل الأطياف تحت عباءته في نبض وحيد جماعي يتنصر للحرية ، و العدالة الاجتماعية ! و دون هذا العقد الاجتماعي ، الذي يتكيء على الحلول السياسية للأزمة ، ستظل السلطة تباشر الرقص المتهوس في الفراغ دون جدوى ! أنصتت السلطة الإسرائيلية لنبض الأحرار الفلسطينيين  من المباشرين للإضراب عن الطعام داخل السجون الإسرائيلية _ إضراب الأربعين يوما ً _ فكسبت الدولة العبرية احترام العالم ، فيما باشرت السلطة المصرية هوايتها بالإمعان في تغييب الصوت الآخر و إغلاق الفضاء العام و حصد مزيد من نظرات الاحتقار الدولي ! حيث اتضح لنا بصورة جلية ، أن وصلات التحريض التي يباشرها " أحمد موسى " هي الإرهاب الحقيقي ، الذي تميد معه الأرض تحت قدمي وطن جريح ، و أن كورسات الخطاب التأجيجي الاستفزازي التي يمارسها " عمرو أديب " هي الألغام الخطيرة ، التي تندس في أوردة الوطن و شرايينه و تهدد جديا ً بتفتيته إلى مائة قطعة ! و أن خبرا ً واحدا ً ملفقا ً أو مكذوبا ً ينشره موقع إخباري موال ٍ للسلطة بصورة غير مهنية  ليفتضح كذبه بعد ذلك ، هو أكثر ضررا ً على الوطن من موقع مهني تم حجبه دون منطق !
 و إذا كان المفكر الكبير " ألفريد نورث هوايمتيد " ، قد رأى في كتابه : " مغامرة الأفكار " ، أن التاريخ البشري في مجمله ليس إلا نموا ً و تطويرا ً لفكرة الحرية بكل مستوياتها و أبعادها ، فمعنى هذا ان السلطة لدينا مصرة على حرماننا من منحى التطور ، و إخراجنا بهمة منقطعة النظير من مشهد التاريخ  ، لنواجه العالم المتفوق بمجتمع كسيح لم يتذوق طعم الحرية يوما ً ، و سلطة تنام بعين مفتوحة و أخرى مغلقة ، و ترتعد من ملابسها خوفا ً من انفجار محتمل ، و فرارا ً من وضعية فاشلة صنعها الإقصاء و مصادرة الفضاء العام برعونة  !
حين من الله على مصر بهديتين : " الإمام " محمد عبده " و " جمال الدين الأفغاني " ، لم يتردد الرجلان في ربط قضية الإصلاح الحضاري بقضية " الحرية " ، حيث قال " محمد عبده " في كتابه " رسالة التوحيد " : " .. إن الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام ..! " ، و صرخ " الأفغاني " في المصريين : " .... إنكم _ معشر المصريين _ قد نشأتم على الاستعباد ، و تربيتم في حجر الاستبداد ، تناوبتكم أيدي الغاصبين ...و أنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم و لا صوت ..! .. عيشوا كباقي الأمم أحرارا ً ..! " و كانت رسالة المصلحين الكبيرين ، هي كلمة السر في تشكيل مصر الحديثة .
 قد تكتشف السلطة _ بعد فوات الأوان _ أن الجهد المبذول لإخراس المحذرين و إسكاتهم ، هو أصعب _ بمراحل و أشواط واسعة _ من جهد آخر ( أقل كلفة ) يمكن بذله لردم الحفرة الكبيرة ، الخطيرة ، اللابدة في الطريق على مبعدة أمتار ، و هي حفرة ستظل باقية مهددة لمصير الوطن و مستقبله ، حتى لو حجبنا  كل المواقع دفعة واحدة !


من جريدة المصريون
بتاريخ02 يونيو 2017 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق