يمكن _ في تاريخ الشعوب _ أن نجعل من لحظات الإخفاق الكبير ، و الإحباط الأسود ( شرارة انطلاق ) بتأسيس وطني جديد ، يستبعد التركة الملعونة ، التي شكلت وجه المحنة ، و يمكن أن تكون هذه اللحظات المصبوغة بالفشل الضخم ، إيذانا ً _ لا قدر الله _ بالتكور في قوقعة معزولة لعقود طويلة قادمة نفقد فيها نضرة الوطن ، و نفتقر في حلوقنا لأي طعم لمعنى المواطنة و دلالتها ، بعد أن رأينا أعلام وطننا تنكس _ أو تدفع دفعا ً إلى التنكيس ! _ و نفوسنا تنكسر _ بقوة _ كما لم تنكسر من قبل ! كنا نختلف حول صيغ دستورية هنا ، أو رؤى إيديولوجية هناك ، أو طريقة ما للخروج من الأزمات السياسية و الاقتصادية ، و كان ضجيج السرادقات السياسية يعلو ، و لكن الخلاف لم يتطرق يوما ً إلى " التراب الوطني " ، أو يجعله محلا ً للجدل ، و أو مفتقرا ً للإثبات بالقرائن و المستندات ! لم يحدث هذا أبدا ً في تاريخ الدولة المصرية ، التي ظلت حدودها ( موشومة ) بوضوح _ قرونا ً _ يراها حتى غير المبصر ! و كانت المرة الأولى التي نكتشف فيها أن ( حدود ) الدولة المصرية ، يمكن أن تكون ( محل جدل ) ، تحت أية ذريعة من الذرائع ! و هذا هو بالتحديد منعطف الفشل الكبير للسلطة المصرية التي تشكلت بعد بيان 3 / 7 الشهير ، حيث مضت هذه السلطة _ بتطرفها المنفرد بالرأي و عجرفتها و قسوتها غير المسبوقة _ لتصل بنا إلى هذه المحطة العجيبة التي لم تخطر على بال أشد الناس تشاؤما ً برغم تنبيهنا و نصحنا المستمر ! و بوضوح فإن تضميد الجرح لن يكون هذه المرة أمرا ً سهلا ً ، إذ يحتاج إلى تغيير كبير في الرؤى الوطنية ، و الوجدان الداخلي المفعم بالحقد الموتور ( و هو الوجدان الذي شكله إعلام المرحلة الشعبوي / الحربي ! ) ، و في نوع القيادات التي يتعين أن تتصدر للمرحلة الجديدة . و قبل هذا كله لا بد أن تسلم القيادات التي دفعت بمصر إلى هذا الوضع الكارثي ، فارتجلت قرارها ، و غامرت بحصتها المائية / التاريخية ، و حنطت القرار الشعبي و الرأي العام ليتجمد كالجثث في ثلاجة الموتى ، أو ليبدو كإصبع سادسة زائدة في الكف بلا أي دور ، و قتلت السياسة قتلا ً ظنا ً بأنها ترف لا تتحمله المرحلة و أجهضت الحلم الديمقراطي برعونة غوغائية ، دفع الجميع ثمنها من لحمه الحي تصورا ً بأن الديمقراطية مثل " الكافيار " رفاهية لا نتحملها تبعا ً لثنائية ( العصا و الصفارة ) التي غرسها فينا أبالسة الحكم الشمولي منذ عقود ، أقول لا بد أن تنحي هذه القيادات التقارير المخادعة جانبا ً و هي التقارير التي تتحدث عن تحسن إنمائي في ستة أشهر ، أو طفرة اقتصادية خلال ثلاثين عاما ً ، أو تعاف ٍ للجسد المصري خلال فترة زمنية قريبة الأجل ، أو غير ذلك من أدبيات التخدير ، فنحن نفيق الآن بقسوة على وطن محطم اقتصاديا ً ، منكسر اجتماعيا ً ، مقزم إقليميا ً و دوليا ً ، مهدد في وريده المائي الأساسي ، يضربه فيروس الانقسام و البغض الأسود في كل خلية ، و شريحة شعبية واسعة تفتقر تماما ً إلى الوعي أو المعلومة الصحيحة بما يسهل معه خديعتها ، و خطاب إعلامي / مجرم غرس الكره المجنون بين الأب و ابنه ، و سكب أطنانا ً من الكيروسين على نيران مشتعلة من الأصل ، و سلطة راديكالية أفلتت منها كل مسارات التصحيح فقررت أن تتعامل ب ( الاستبياع ) أو القبضة الأمنية وحدها و ليكن ما يكون ، و قبل هذا كله نخبة متغطرسة متهوسة ، تنكرت للخيار الديمقراطي و رفضت مسارات الصندوق عندما لم تأت على هواها ، و عادت الآن لتغرد بصوت متحشرج طالبة الاصطفاف و العودة إلى خرائط المسار الديمقراطي ، التي أحرقتها بيدها يوما ً بفجور و عجرفة !
تحركت السلطة طول الوقت بمنطق " تأجيل الانفجار " لا علاج جذور الأزمة فاحتكمت إلى القبضة الأمنية بشكيمة غير مسبوقة و غيبت السياسة و الرؤى الاقتصادية الجديدة و تجاهلت الخيار الشعبي تماما ً ، و تحركت القوى السياسية الباقية داخل مصر بمنطق " تقليل الخسائر " لا صناعة الاختراق و الابتكار و الحلول ، و المنطقان لا يبنيان وطنا ً ! إذا أردنا أن نجعل من الأزمة الدرامية الكارثية الراهنة ( بداية ) لا ( نهاية ) ، فعلى الجميع تدارك الأمر بالمراجعة الشجاعة قبل تطاير حمم البركان ، و خروج كل الامور عن السيطرة ، أعني بوضوح تنحي القيادات التي أفشلت المرحلة و خنقت الحلول المحتملة و سحب جيوش الخبراء الاستراتيجيين الذين ملأوا الشاشات خرفا ً و استفزازات بلهاء مسخت الوعي ، و توقف شريحة من التيار الإسلامي عن الشماتة فمصاب الوطن نار تحرق الجميع و تدارك الآخرين لخطئهم خطوة يتعين أن تثمن غاليا ً ، و على المجموعات الليبرالية و الناصرية و اليسارية و القومية أن تكف عن حقدها التاريخي ضد التيار الإسلامي و أن تقر بخطئها المؤكد في رفض مخرجات اللعبة الديمقراطية عندما عاكست حساباتها و خرجت عن إطار تصورها المفروض ، إن " خروج الشعوب من أنقاض الأزمات المزلزلة بصبر و أفق منجزات جديدة ، فن يحتاج إلى احتشاد خاص و مراجعات جذرية " تماما ً كما يقول " فرناند جيجون " في كتابه الفريد : " إني عائد من هيروشيما " ! فهل يقدر لنا أن نعود ؟!
من جريدة المصريون
بتاريخ16 يونيو 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق