مُدَونَة د. حُسَام عَقْل

09‏/07‏/2017

معركة المطعم .. العنصرية المصرية الجديدة في وطن الخوف !

كان من المحتم أن أتريث _ قليلا ً _ قبل استيعاب ماجرى في واقعة المطعم المصري الشهير بالقاهرة ، حيث كان صاعقا ً بدرجة مذهلة ، صادما ً بما يتجاوز الحدود المعقولة ، كاشفا ً لنوع ( البشر ) الذين صاغتهم المرحلة _ إعلاما ً و توجها ً _  حين وقعت مشادة ضخمة  عقب الإفطار في المطعم ، جرى على إثرها الاعتداء على عدد من  الفتيات المنتقبات لما يزيد على أربعين دقيقة ، بعد  حبسهن في الطابقين : الثاني و الثالث  ، و تطوع ( نشامى ) المرحلة  و ذكورها ( الأقوياء ! ) الموجودون  في المطعم ، الذكور(  الوهميون )  الذين صنعهم الإعلام الشعبوي / التحريضي المجرم  على عينه ، و غذاهم بكل الأفكار العنصرية / المتطرفة حول شخصية : ( المتدين ) أو ( المتدينة ) _ في المطلق _  دون أي تمحيص ، أو تمييز بين ( غلاة ) و ( معتدلين )  فأهاج  فيهم كل الغرائز العدوانية  الغبية ، و استثار  روح النازي الكامن فيهم تحت الجلد ، حتى حولهم إلى ماكينات اعتداء قذرة صماء عارية عن أي حس أخلاقي أو إنساني !  و مضى المسوخ المنتسبون زورا ً إلى عالم الرجولة ، فجذبوا أحزمتهم من البنطال ليعزفوا على ظهور الفتيات المنتقبات ، النشيد المارشالي النازي الجديد للاستباحة و الإجرام و الاستقالة من الضمير الأخلاقي  ، في ( مصر الجديدة ) التي أخبرونا بأنها ستكون ( قد الدنيا ) ، فأصبحت _ بتراكم الممارسات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الإعلامية  عبر ثلاث سنوات من " التحريض الممنهج " في غيبة السياسة  و الرؤية و الخلق ، و في غيبة أي شيء ! _  مجرد مكان  ضحل مقهور ، كالح الوجه ، عارٍ ً عن أية قيمة أو منجز  قزمناه بأيدينا ، فلم نستغرب أن ( قزمه ) الآخرون في المحيطين : الإقليمي و الدولي ، فلم يعد لوجودنا الجيوسياسي أثر ، و لا لقرارنا أصداء ، و لا لغضبنا أو رضانا أية أوزان  !
 لم أتصور _ للحظة _ أن وصلات التحريض الآثمة التي يباشرها الإعلاميون في مدينة الإنتاج الإعلامي ، أو كتاب الزوايا و الأعمدة الصحفية ، أو التحقيقات الصحفية الملفقة التي تحرق البخور للمرحلة بصورة عمياء ، أقول لم أتصور مطلقا ً أن يصل بنا هذا الأداء الإعلامي المتهوس إلى هذه اللحظة المرعبة ، لحظة صناعة ( الإنسان / الماكينة  ) ، و توجيه بوصلته بإجرام نحو مجموعات عرقية أو دينية أو إثنية بذاتها ، ليستبيحها أو يعتدي عليها بفجور ، أو يصفيها جسديا ً ظنا ً بأنه يباشر عملا ً وطنيا ً بطوليا ً ، يرفع بعده العلم الوطني ، ويرقص منتشيا ً  بأناشيد المرحلة المبتذلة ، التي تقول الشيء و هي تعني عكسه ، و تتظاهر بالسماحة و الاتساع الإنساني و هي تبني أقبية الموت ، و لا يعرف كثيرون أن أغنية : " تسلم الأيادي .." التي واكبت الصدامات الدامية في الميادين ، كانت  مسروقة و مؤلفة _ موسيقيا ً _  من نفس المقام الموسيقي و الجملة اللحنية التي صيغت منها أغنية : " تم البدر بدري .." كما يعرف الموسيقيون ذلك جيدا ً برغم المسافة الرهيبة التي تفصل بين الأغنيتين ،  سياقا ً و معنى !
  الذين اعتدوا على المنتقبات و تسببوا لهن في كدمات ، و جروح غائرة في الروح لا يعرفها إلا من حوصر بغوغائية القهر  و قسوته ، أقول من باشروا هذا الاعتداء المنحط ، كانوا يعتقدون أنهم يعاقبون خونة الوطن ، و ينتصرون للعلم  الوطني ،  و يكررون انتصارات رأفت الهجان ، و يحرسون الفضيلة الجديدة ، التي قدم التعريف الجديد لها : " أحمد موسى " و " الإبراشي " و " عمرو أديب " و " و لميس " و المتشنجون من رفاقهم الذين صدروا للرأي العام مفاهيم و كليشيهات معلبة  منحرفة حول : " معنى الوطن " و " دلالة المعارضة " و " أهل الشر الجدد " و متلازمة " الخرفان و الذبح " ، فارتكبوا جرائم إعلامية من النوع المؤثم دوليا ً ، و أقرر هنا ان الجرائم التحريضية  ، التي عوقب  عليها الإعلامي الرواندي " حسن إنجيزي " أمام الجنائية الدولية  ، و هي الجرائم التي تسببت في اندلاع الحرب الاهلية في رواندا ، و سقوط الضحايا الذي وصلوا إلى مليون في بعض التقديرات ، أقول إن تحريض الإعلامي " حسن إنجيزي " لم يبلغ عشر معشار التحريض الوضيع الذي يتقيؤه الإعلاميون المصريون في وجوهنا كل لحظة !
 قبل أشهر كتبت مقالة في هذا المكان حول : " العنصرية الجديدة المتصاعدة في مصر " ، و كان داخلي مخاوف متنامية من تغير تركيبة الرأي العام ، و الشرائح الشعبية الواسعة بتأثير خطاب إعلامي موجه ، طافح بكل أشكال العدوانية و الاستباحة ، و صدق حدسي ، حين وصلنا إلى " موقعة المطعم " التي كانت كاشفة _ بصورة درامية فاجعة _ ل " مصر الجديدة " المعبأة حتى العظام ضد الفكرة الإسلامية ، بكل تنوعاتها الطيفية ، و التي تحشد الناس _ بالبوصلة الخطأ _ نحو إرهاب وهمي ، مصنع سياسيا ً بخبث لإزاحة الخصوم السياسيين  ، بدلا ً من ان نحتشد جميعا ً ضد الإرهاب الداعشي الحقيقي في " سيناء " أو غيرها من المحافظات ! و هنا أسأل ما وجه الحكمة في مداهمة منزل الصحفي  المستنير المعتدل " أسامة الهتيمي " بهذه القسوة ؟!  و ما وجه الحكمة في اصطياد الناشط العمالي اليساري " كمال خليل "  بهذه الطريقة ، و هو لا يملك إلا صوتا ً و قلما ً و لافتة ؟! و ما وجه الحكمة في تبغيض الأزهر إلى الناس بحملات مجنونة لا تعرف أية ضوابط ؟! و ما التصور المفترض من وراء إغلاق المجال السياسي العام بهذا الاختناق ؟!
 اختلفنت مع الإخوان كثيرا ً _ في وقت حكمهم و المواقف معلنة _ و تباينت رؤيتي مع شريحة معتبرة من " التيار السلفي " و تحملت هجوما ً سلفيا ً واسعا ً ، حين سجلت خلافي مع الشيخ " مصطفى العدوي " في بعض الرؤى ، و مقالات هذه المساحة شاهدة على ذلك ،  و رأيت من خلال اجتهادي الفقهي المتواضع ان " نصوص النقاب كما يقول متحققون بالعلم الشرعي ليست ( قطعية الدلالة ) و أن النهي عن التبرقع للمحرمة بالحج ليس دليلا ً على أصلية فرض النقاب لأن الحج زيادة في الطاعة لا نقص ) ، و لا مشكلة في أن نتساجل فقهيا ً و نختلف ،  لكن كيف يمكن حصار الفكرة الإسلامية في مصر بهذا الهوس ؟!   و كيف تمت إماتة كل المناسبات الدينية بما فيها رؤية الهلال و احتفالية ليلة القدر بهذه الإسفكسيا الاختناقية  و كأنها عار نتجنبه ما أمكن ؟! و كيف أمكن إسكات العلماء و المفكرين المعتدلين بهذا الارتجال ؟! و ما هو الرهان الحقيقي الذي تمضي خلفه السلطة ، أو الرئاسة و هي تخسر كل يوم صديقا ً ، و تشعل الوطن باحتقان رهيب ، لا نعرف كيف سنتلافى آثاره مستقبلا ً ؟! و كيف سنسمح لأولادنا و احفادنا بالعيش المشترك  في ظل هذا الشق الاستقطابي / الحربي ، و العنصرية السوداء المصنعة سياسيا ً ؟!
 و ليس مهما ً هنا إيراد تفاصيل الواقعة ، أو التعليق على فيديو الاعتداءات المنشور على كل الصفحات الفيسبوكية تقريبا ً ، و ليس مهما ً  التعليق  على بيانات إدارة المطعم التي نشرتها الإدارة ثم سارعت بمحوها ، و لكنني أدعو خبراء الإعلام إلى مراجعة " الأداء الإعلامي " المواكب ل " موقعة المطعم " لنتأكد أن الجرائم ليست دائما ً سكينا ً أو رصاصا ً يحصد الأبرياء  و أن هناك أداء إعلاميا ً محرضا ً / مجرما ً يمكن ان يكون أكثر تدميرا ً من قوة مدفع او  خطورة كلاشنكوف ، فحين تعقب " اليوم السابع " على أزمة المطعم فتكتب ببنط عريض بعد ساعات لا أكثر من الواقعة و استباقا ً لأية تحريات  : " بروفيلات البنات تؤكد انتماءهن لجماعة الإخوان ! ! ! " و هو ما لم تقله تحريات الشرطة نفسها ، فإن هذا يعكس جنونا ً مهنيا ً لا مثيل له ، فكيف يكون بروفيل الوجه دليلا ً على المعتقد التصنيفي الإيديولوجي  الذي يعكس تنقيبا ً أحمق في النيات و الضمائر ،  و أية وجوه استطاع محرر اليوم السابع الجهبذ رؤيتها خلف النقاب ؟! و كيف نبادر إلى التصنيف الديني  العقوبي المحرض بإزاء فتيات لا نعرف حتى أسماءهن ؟! و من يخبر محرري " اليوم السابع " أن اداءهم المهني  التحريضي المغيب قد أصبح " مسخرة المساخر " دون لف أو دوران ! و ليتأكد العالم أن صحافة " جيمس جوردون بينيت " الأمريكي ، التي تعد أبرز نماذج الصحافة الصفراء التي سخر منها الأمريكيون حتي استلقوا على ظهورهم من الضحك  في الفترة بين 1833 و 1860 ، أقول إن هذه الصحافة الكهفية التشهيرية المحرضة ، ما زالت تحيا في أروقة " اليوم السابع " ! و مساخر اليوم السابع في هذا الخصوص لا تقل عن مساخر صديقي الروائي اللاديني الشهير،  الذي عقب على حادثة دهس المصلين في لندن بأنها " جريمة جنائية " لا " جريمة إرهابية " ، لا لشيء إلا لأن كتالوج المرحلة الجاهز ، قد علمه أن الجرائم الإرهابية لا بد ان تكون حكرا ً على المسلمين وحدهم !   و هي الروح ذاتها التي تمضي بها وزارة ثقافة " حلمي النمنم " في معركتها المقدسة لتكريس الاستباحة و سلب الحريات  و تعميق العنصرية الجديدة  بعمل ثقافي محرض مدعوم من ضرائبنا وجيوبنا ؟!
 لن أكرر النصح الكلاسيكي بأن هذا الطريق التصعيدي الدامي ، الذي تباشره السلطة بعد بيان 3 / 7 ، نهايته معروفة بدلالة قراءة التاريخ ! و لا بأن هذه العنصرية  المصرية الجديدة الملتاثة لها نظائر معروفة في حركة " النازيين الجدد " Neonazism " في ألمانيا أو حتى في حركة " النازيين التقليديين " ، و هي الحركة التي صعدت بقوة بعد عام 1933 ، و انتهت بمحاكمات " نورمبرج " الشهيرة ، حيث انبطح رموز العنصرية الألمانية  على الأرض عرايا تقريبا ً ( القيادي النازي " وليم فرانك نموذجا ً ! ) لن أذكر بهذا كله ، فقط أذكر بأن معركة  ( منابع النيل ) ، التي تدق طبولها بقوة  الآن ، قد تجعل السلطة _ في المسقبل القريب أو البعيد _  بحاجة ماسة إلى حاضنة شعبية واسعة ، حين تفرض أية مواجهات قادمة ( سوف يبدأ ملء الخران الإثيوبي الشهر القادم ! ) فهل نستطيع أن نضمن آنذاك ضخامة الحاضنة الشعبية أو عمقها و قوتها ، و قد خسرت السلطة الجميع ، و أحرقت سفنها معهم جميعا ً تقريبا ً ؟! و هل هذا هو التعاطي الحصيف مع قضايا الأمن القومي ؟!

من جريدة المصريون
بتاريخ23 يونيو 2017 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق