لا مفر من الاعتراف، في غير تحرج، بأن أدبيات العدالة الإجتماعية تشهد ضموراً واضحاً في الخطاب الإسلامي المطروح منذ أربعة عقود أو تزيد، في مقابل الصعود التدريجي للخطاب السياسي الذي يشكل، دون شك، مقوماً عضوياً راسخاً في التصور الإصلاحي الإسلامي. لكن التركيز (السياسي) دون (الإقتصادي) و الإيغال في هياكل الدولة التنظيمية دون تصور واع لدورها الاقتصادي و الاجتماعي هو بذاته مطعن يصم الخطاب الذي ينطلق من معسكر الإصلاح الإسلامي و لكنه ليس محسوباً أية حال، على الإسلام نفسه الذي تتضافر نصوصه المتواترة، قراناً و سنة، على صيانة حق الفقير و الدفاع الصلد عن حقوق الطبقة المتوسطة و الدنيا في استكمال ضرورات الحياة و البقاء بطريقة آمنة كريمة، لا تريق الوجه و لا تورط الأوطان في القلاقل الاجتماعية المتزلزلة، و لا تسمح ببزوغ دولة "الأباطرة المحتكرين"!
و قد بدأ القران بتقصي القضية من جذورها حين اعتبر المظالم الاجتماعية بتداعياتها الدامية ثمرة من ثمار الدولة الشمولية و حصاداً مراً من غرسها المسموم: "و لقد أخذنا آل فرعون بالسنين و نقص من الثمرات و لعلهم يذكرون" (الأعراف - 130) و يتضح من منطوق الآية أن هنالك تلازماً عضوياً بين الاستبداد السياسي، بصوره و أشكاله، و بين المظالم الاجتماعية و مظاهر الخلل الهيكلي في الاقتصاد.
و تصر بعض الاتجاهات الفكرية، في أدبيات خطابها، على تجريد التصور الإصلاحي الإسلامي، من أبعاده الاقتصادية و الاجتماعية التي كانت دوماً سنداً للفقير و ظهيراً صلباً لحقوقه، ربما إلى حد الزعم، بفجاجة و تسطيح، بأن المشروع الإسلامي في جوهره مجرد محاولات متكررة للانقضاض على الحكم دون عائد ذي طائل على الأمة!
و من نماذج هذه القراءة الشوهاء أن يتوقف بعض حملة القلم، على نحو ما صنع "خالد منتصر" في كتابه "دفاعاً عن العقل" (و هو الكتاب الحاصل على جائزة البحرين لحرية الصحافة في 2010) أمام التجربة الماليزية فيحاول تجريد مشروعها النهضوي المبهر من صبغته الإسلامية، تصوراً و ولاء! فيعتبر، قولاً واحداً، أن نهضة ماليزيا مجرد حلم بـ"الليبرالية الاجتماعية" داعب خيال "مهاتير محمد" (دفاعاً عن العقل - ص 133،134) و كأن قاطرة الإسلام، عقيدة و اقتصاداً و تشريعاً، لم تصل إلى "كوالالمبور" و لم تؤثر، بصورة جذرية، في معتقد الشعب الماليزي و أشواقه و أساليبه الإجرائية في إصلاح هياكل الدولة. فيما يعرف خبراء الاقتصاد أن خيط الاستهلال الأولى في النهضة الماليزية بدأ بتقديم قروض بدون فوائد للفقراء من السكان الأصليين "البوميبترا" و بفترات سماح تمتد إلى أربع سنوات في استلهام شديد الوضوح لهياكل الاقتصاد الإسلامي و طرائقه في الإقراض و تدوير المال. و قد كان لافتاً للنظر أن موقف "ماليزيا" الرافض لمقترحات البنك الدولي و روشتته الإصلاحية حين ضربت الأزمة المالية الإقتصادية شرق آسيا عام 1998، و هو الموقف الوطني الاستقلالي الذي كان مثار إعجاب دولي، كان في جوهره مدفوعاً بأسباب عقدية صاغها الإسلام و صنعها على عينه!
و تكتسب صيحات الرواد الكبار في النهضة الإسلامية الحديثة عمقاً خاصاً في فترات التحول، فحين لاحظ الداعية الكبير الراحل "محمد الغزالي" (1917-1996) أن مساحة "السياسي" و الأخلاقي تكاد تطغى على رقعة في الخطاب الإسلامي المعاصر الإقتصادي و الاجتماعي في فورة المد الاشتراكي في مطالع القرن الماضي، بادر بإصدار كتابه الرائد: "الإسلام و المناهج الاشتراكية" ناقماً على هذا الحلف الردئ بين بعض رجال الدين الأوروبيين في العصور الوسطية و بين (الأرستقراطية) "التي أذلت الشعوب و احتنضت الرأسمالية الطاغية، و لم يبال هؤلاء الرجال أن يتركوا الطبقات الدنيا تموت بؤساً و ضياعاً" (الإسلام و المناهج الاشتراكية، ص20، ط/ دار الكتاب العربي 1951) مسقطاً على تجربة الخطاب الإسلامي المعاصر التي توشك على أن تكرر الخطأ نفسه!
و هذا الهاجس النهضوي ذو الأبعاد الاجتماعية هو ذاته الذي دفع أحد أعلام النهضة، و هو "مالك بن نبي" (1905-1973) أن يبادر بسد هذه الثغرة في خطاب النهضة الإسلامية المعاصرة. فوضع كتابه القيم " المسلم في عالم الاقتصاد" رافضاً أن يكون "النموذج الاجتماعي الجائع العاري..الممتد من "طنجة" إلى "جاكرتا" علماً للدول الإسلامية و عنواناً عليها ("المسلم في عالم الاقتصاد" ص 15، دار الفكر 1979) طارحاً في كتابه جملة من الاجراءات الإصلاحية التي تستلهم النموذج الإسلامي، رافضاً ما أسماه "تركيب روح إسلامية على جسم أجنبي يرفضها و ترفضه"!
فمن حق الرعية أن تطالب، مثالاً لا حصراُ، وفق مبدأ الكفاف، بثلاثة حقوق جذرية - أكدها "ابن حزم" في "المحلى"- "مطعم و مشرب ملائم، و كسوة الشتاء و الصيف، و مسكن يليق بحاله" و لو وقع إبراز هذه الحقائق بنبرة جهيرة في الخطاب الإسلامي المعاصر لوثق الرأي العام أن هذا التصور في مجمله منشئ لحقوق الطبقات الوسطى و الدنيا و داعم لها و رافع لها إلى سقف "الإلزام" و الفرض لا المن أو الأريحية أو التفضل!
أما الكلام المفصل عن هذه الحقوق و التجارب، و في الصدارة منها تجربة "الوقف" فهو ما نأمل إيفاءه حقه في المقال القادم إن شاء الله.
د.حسام عقل
21 نوفمبر 2012
فمن حق الرعية أن تطالب، مثالاً لا حصراُ، وفق مبدأ الكفاف، بثلاثة حقوق جذرية - أكدها "ابن حزم" في "المحلى"- "مطعم و مشرب ملائم، و كسوة الشتاء و الصيف، و مسكن يليق بحاله" و لو وقع إبراز هذه الحقائق بنبرة جهيرة في الخطاب الإسلامي المعاصر لوثق الرأي العام أن هذا التصور في مجمله منشئ لحقوق الطبقات الوسطى و الدنيا و داعم لها و رافع لها إلى سقف "الإلزام" و الفرض لا المن أو الأريحية أو التفضل!
أما الكلام المفصل عن هذه الحقوق و التجارب، و في الصدارة منها تجربة "الوقف" فهو ما نأمل إيفاءه حقه في المقال القادم إن شاء الله.
د.حسام عقل
21 نوفمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق